الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الدّيات جمع ديةٍ، وهي في اللّغة مصدر ودى القاتل القتيل يديه ديةً إذا أعطى وليّه المال الّذي هو بدل النّفس، وأصلها ودية، فهي محذوفة الفاء كعدةٍ من الوعد وزنةٍ من الوزن. وكذلك هبة من الوهب. والهاء في الأصل بدل من فاء الكلمة الّتي هي الواو، ثمّ سمّي ذلك المال " ديةً " تسميةً بالمصدر. وفي الاصطلاح عرّفها بعض الحنفيّة بأنّها اسم للمال الّذي هو بدل النّفس. ومثله ما ذكر في كتب المالكيّة. حيث قالوا في تعريفها: هي مال يجب بقتل آدميٍّ حرٍّ عوضاً عن دمه. لكن قال في تكملة الفتح: الأظهر في تفسير الدّية ما ذكره صاحب الغاية آخراً من أنّ الدّية: اسم لضمانٍ (مقدّرٍ) يجب بمقابلة الآدميّ أو طرفٍ منه، سمّي بذلك لأنّها تؤدّى عادةً وقلّما يجري فيها العفو لعظم حرمة الآدميّ. وهذا ما يؤيّده العدويّ من فقهاء المالكيّة حيث قال بعد تعريف الدّية: إنّ ما وجب في قطع اليد مثلًا يقال له دية حقيقةً، إذ قد وقع التّعبير به في كلامهم. أمّا الشّافعيّة والحنابلة فعمّموا تعريف الدّية ليشمل ما يجب في الجناية على النّفس وعلى ما دون النّفس. قال الشّافعيّة: هي المال الواجب بالجناية على الحرّ في نفسٍ أو فيما دونها. وقال الحنابلة: إنّها المال المؤدّى إلى مجنيٍّ عليه، أو وليّه، أو وارثه بسبب جنايةٍ. وتسمّى الدّية عقلاً أيضاً، وذلك لوجهين: أحدهما أنّها تعقل الدّماء أن تراق، والثّاني أنّ الدّية كانت إذا وجبت وأخذت من الإبل تجمع فتعقل، ثمّ تساق إلى وليّ الدّم.
أ - القصاص: 2 - القصاص من القصّ، وهو في اللّغة بمعنى القطع، والقصاص في الشّرع هو القود، وهو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل. فإذا قتل قتل مثله، وإذا جرح جرح مثله. (ر: قصاص). ب - الغرّة: 3 - الغرّة من كلّ شيءٍ أوّله، والغرّة: العبد أو الأمة، ومن معانيها في الشّرع: ضمان يجب في الجناية على الجنين، وتبلغ قيمتها نصف عشر الدّية، وهي خمس من الإبل أو خمسمائة درهمٍ على تفصيلٍ يذكر في مصطلح: (غرّة)، سمّيت غرّةً لأنّها أوّل مقادير الدّية، وأقلّ ما قدّره الشّرع في الجنايات. ج - الأرش: 4 - الأرش يطلق غالباً على المال الواجب في الجناية على ما دون النّفس، فهو أخصّ من الدّية بهذا المعنى، لأنّها تشمل المال المؤدّى مقابل النّفس وما دون النّفس. وقد يطلق الأرش على بدل النّفس أيضاً، فيكون بمعنى الدّية. د - حكومة عدلٍ: 5 - من معاني حكومة العدل ردّ الظّالم عن الظّلم. وتطلق عند الفقهاء على الواجب يقدّره عدل في جنايةٍ ليس فيها مقدار معيّن من المال. فهي تختلف عن الأرش والدّية في أنّها غير مقدّرةٍ في الشّرع، وتجب وتقدّر بحكم العدل. هـ - الضّمان: 6 - الضّمان لغةً: الالتزام، وشرعاً: يطلق على معنيين: أ - المعنى الخاصّ: وهو دفع مثل الشّيء في المثليّات، وقيمة الشّيء في القيميّات. فهو بهذا المعنى يطلق غالباً على ما يدفع مقابل إتلاف الأموال، بخلاف الدّية الّتي تدفع مقابل التّعدّي على الأنفس. ب - المعنى العامّ الشّامل للكفالة: وعرّفها جمهور الفقهاء بأنّه التزام دينٍ أو إحضار عينٍ أو بدنٍ. ويقال للعقد المحصّل لذلك أيضاً، أو هو شغل ذمّةٍ أخرى بالحقّ.
7 - الأصل في مشروعيّة الدّية قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}، وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو بكر بن محمّد بن عمرو بن حزمٍ عن أبيه عن جدّه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابًا فيه الفرائض والسّنن والدّيات وبعث به مع عمرو بن حزمٍ فقرئت على أهل اليمن هذه نسختها: من محمّد النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل بن عبد كلّالٍ، ونعيم بن عبد كلّالٍ، والحارث بن عبد كلّالٍ قيل ذي رعينٍ ومعافر وهمدان أمّا بعد، وكان في كتابه: إنّ من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بيّنةٍ فإنّه قود إلاّ أن يرضى أولياء المقتول، وأنّ في النّفس الدّية مائةً من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدّية، وفي اللّسان الدّية، وفي الشّفتين الدّية، وفي البيضتين الدّية، وفي الذّكر الدّية، وفي الصّلب الدّية، وفي العينين الدّية، وفي الرّجل الواحدة نصف الدّية، وفي المأمومة ثلث الدّية، وفي الجائفة ثلث الدّية، وفي المنقّلة خمس عشرة من الإبل، وفي كلّ أصبعٍ من أصابع اليد والرّجل عشر من الإبل، وفي السّنّ خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وأنّ الرّجل يقتل بالمرأة، وعلى أهل الذّهب ألف دينارٍ» وفي روايةٍ زيادة «وفي اليد الواحدة نصف الدّية». وقد أجمع أهل العلم على وجوب الدّية في الجملة. والحكمة في وجوبها هي صون بنيان الآدميّ عن الهدم، ودمه عن الهدر.
8 - تختلف الدّية ومقدارها بحسب اختلاف نوع الجناية وصفة المجنيّ عليه. فهناك دية النّفس ودية الأعضاء، كما أنّ هناك دية مغلّظة ودية غير مغلّظةٍ، فدية العمد إذا سقط القصاص بسببٍ من أسباب سقوطه كالعفو، أو عدم توفّر شرطٍ من شروط القصاص أو بوجود شبهةٍ دية مغلّظة، كما أنّ دية شبه العمد مغلّطة، ودية الخطأ وما يجري مجراه دية غير مغلّظةٍ. وهذا في الجملة، وسيأتي تفصيل هذه المسائل مع بيان معنى العمد وشبه العمد والخطأ. وأسباب التّغليظ والتّخفيف في الدّية، واختلاف الفقهاء في بعض الفروع فيما بعد.
9 - أ - يشترط لوجوب الدّية أن يكون المجنيّ عليه معصوم الدّم، أي مصون الدّم، وهذا باتّفاق الفقهاء. فإذا كان مهدر الدّم، كأن كان حربيّاً، أو مستحقّ القتل حدّاً أو قصاصاً فلا تجب الدّية بقتله لفقد العصمة. ولبيان معنى العصمة وشروطها ينظر مصطلح: (عصمة). وأمّا الإسلام فليس من شرائط وجوب الدّية لا من جانب القاتل ولا من جانب المقتول، فتجب الدّية سواء أكان القاتل أو المقتول مسلماً، أم ذمّيّاً، أم مستأمناً. وكذلك لا يشترط العقل والبلوغ، فتجب الدّية بقتل الصّبيّ والمجنون اتّفاقاً، كما تجب في مال الصّبيّ والمجنون " مع خلافٍ وتفصيلٍ ". وذلك لأنّ الدّية ضمان ماليّ فتجب في حقّهما، وسيأتي تفصيله فيمن تجب عليه الدّية. ب - وجود المجنيّ عليه بدار الإسلام: 10 - ويشترط لوجوب الدّية عند الحنفيّة أن يكون المجنيّ عليه بدار الإسلام، قال الكاسانيّ: وعلى هذا فإنّ الحربيّ إذا أسلم في دار الحرب فلم يهاجر إلينا فقتله مسلم أو ذمّيّ خطأً لا تجب الدّية عند أصحابنا. ولا يشترط جمهور الفقهاء هذا الشّرط فيرون أنّ العصمة تحصل بالإسلام أو الأمان، فيدخل فيها المسلم - ولو كان في دار الحرب - كما يدخل فيها الذّمّيّ، والمستأمن، والمعقود معهم عقد الموادعة، والهدنة.
11 - القتل هو لغةً: إزهاق الرّوح، يقال: قتلته قتلاً: إذا أزهقت روحه. وأطلقه الفقهاء أيضًا على الفعل المزهق، أي القاتل للنّفس، أو فعل ما يكون سبباً لزهوق النّفس، والزّهوق هو مفارقة الرّوح البدن. وقسم الشّافعيّة والحنابلة القتل إلى عمدٍ، وشبه عمدٍ، وخطأٍ. وقسمه الحنفيّة إلى خمسة أقسامٍ: العمد، وشبه العمد، والخطأ، وما يجري مجرى الخطأ، والقتل بالسّبب. وعند المالكيّة ليس هناك إلاّ قتل العمد، وقتل الخطأ. وتفصيله في مصطلح: (قتل). 12 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا قصاص في القتل الخطأ، وإنّما تجب الدّية والكفّارة. فكلّ من قتل إنساناً ذكراً أو أنثى، مسلماً أو ذمّيّاً، مستأمناً أو مهادناً، وجبت الدّية، لقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} وقوله سبحانه: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}. ودية الخطأ تجب على عاقلة الجاني مؤجّلةً في ثلاث سنين باتّفاق الفقهاء، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «اقتتلت امرأتان من هذيلٍ فرمت إحداهما الأخرى بحجرٍ فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها» أي على عاقلة القاتلة. ودليل تأجيلها كما قال الكاسانيّ: إجماع الصّحابة رضي الله عنهم على ذلك، فإنّه روي أنّ عمر رضي الله عنه قضى بذلك بمحضرٍ من الصّحابة، ولم ينقل أنّه خالفه أحد فيكون إجماعاً.
حكمة وجوب دية الخطأ على العاقلة 13 - الأصل وجوب الدّية على الجاني نفسه، لأنّ سبب الوجوب هو القتل، وأنّه وجد من القاتل، ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره، لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ولهذا لم تتحمّل العاقلة ضمان الأموال، ودية العمد. لكنّه ترك هذا الأصل في دية الخطأ بنصّ الحديث السّابق، وبفعل الصّحابة كما تقدّم، والحكمة في ذلك كما قال البهوتيّ: إنّ جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدميّ كثيرة، فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفاً. وقال الكاسانيّ: في حكمته: إنّ حفظ القاتل واجب على عاقلته، فإذا لم يحفظوا فقد فرّطوا، والتّفريط منهم ذنب. ويدخل القاتل في تحمّل دية الخطأ مع العاقلة عند الحنفيّة والمالكيّة فيكون فيما يؤدّي مثل أحدهم خلافاً للشّافعيّ والحنابلة كما سيأتي. وفي بيان المراد من العاقلة، وتحديدها، وكيفيّة تحميلها الدّية، ومقدار ما تتحمّله العاقلة من الدّية خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح: (عاقلة). 14 - ودية القتل الخطأ دية مخفّفة، ولا تغلّظ في أيّ حالٍ عند الحنفيّة والمالكيّة، خلافاً للشّافعيّة والحنابلة حيث قالوا بتغليظها في ثلاث حالاتٍ: أ - إذا حدث القتل في حرم مكّة، تحقيقاً للأمن. ب - إذا حدث القتل في الأشهر الحرم، أي ذي القعدة وذي الحجّة والمحرّم ورجبٍ. ج - إذا قتل القاتل ذا رحمٍ محرمٍ له. ففي هذه الحالات تجب دية مغلّظة، لما روى مجاهد أنّ عمر رضي الله عنه قضى فيمن قتل في الحرم، أو في الأشهر الحرم، أو مَحْرَماً بالدّية وثلث الدّية. ولا تغلّظ الدّية في القتل في المدينة عند جمهور الفقهاء. وفي وجهٍ عند الشّافعيّة تغلّظ، لأنّها كالحرم في تحريم الصّيد فكذلك في تغليظ الدّية. أمّا تغليظ الدّية في القتل العمد وشبه العمد فسيأتي تفصيله في موضعه، مع بيان معنى التّغليظ والتّخفيف في الدّية. وتجب الدّية من صنف المال الّذي يملكه من تجب عليه الدّية. فإن كانت من الإبل تؤدّى في القتل الخطأ أخماسًا باتّفاق الفقهاء، وهي عشرون بنت مخاضٍ، وعشرون بنت لبونٍ، وعشرون حقّةً، وعشرون جذعةً اتّفاقاً. واختلفوا في العشرين الباقية: فقال الحنفيّة والحنابلة: هي من بني المخاض، وهذا قول ابن مسعودٍ، والنّخعيّ، وابن المنذر أيضاً. لما ورد في حديث عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه وقد رفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «في دية الخطأ: عشرون حقّةً، وعشرون جذعةً، وعشرون بنت مخاضٍ، وعشرون بنت لبونٍ، وعشرون بني مخاضٍ ذكرٍ». " راجع بيان هذه الأنواع من الإبل في مصطلحاتها ". أمّا المالكيّة والشّافعيّة فقالوا في العشرين الباقية: هي من بني اللّبون، وهذا قول عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسارٍ، والزّهريّ، واللّيث، وربيعة، لما روي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ودى الّذي قتل بخيبر بمائةٍ من إبل الصّدقة وليس فيها ابن مخاضٍ». والدّية من الذّهب ألف دينارٍ باتّفاق الفقهاء، أمّا من الورق " الفضّة " فهي عشرة آلاف درهمٍ عند الحنفيّة، واثنا عشر ألف درهمٍ عند جمهور الفقهاء، وسيأتي تفصيله عند الكلام عن مقدار الدّية.
15 - القتل شبه العمد هو القتل بما لا يقتل غالباً، كما هو تعبير الشّافعيّة والحنابلة، أو هو القتل بما لا يفرّق الأجزاء، كما هو تعبير الحنفيّة. ولا يقول به المالكيّة كما تقدّم. ولا خلاف بين الفقهاء ممّن يقولون بشبه العمد في أنّه موجب للدّية. والدّية في شبه العمد مغلّطة. ودليل وجوبها وتغليظها في القتل شبه العمد قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإنّ قتيل الخطأ شبه العمد ما كان بالسّوط والعصا مائة من الإبل، أربعون في بطونها أولادها». وتجب هذه الدّية على عاقلة الجاني عند جمهور القائلين بشبه العمد، وبه قال الشّعبيّ والنّخعيّ، والحكم، والثّوريّ، وإسحاق، وابن المنذر، وذلك لشبهة عدم القصد لوقوع القتل بما لا يقصد به القتل عادةً، أو لا يقتل غالباً. ولا يشترك فيها الجاني عند الشّافعيّة والحنابلة، ويشترك فيها عند الحنفيّة كما في القتل الخطأ. ودليل وجوبها على العاقلة ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «اقتتلت امرأتان من هذيلٍ فرمت إحداهما الأخرى بحجرٍ فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها». وقال ابن سيرين والزّهريّ، والحارث العكليّ وابن شبرمة وقتادة، وأبو ثورٍ: إنّها تجب على القاتل في ماله، لأنّها موجب فعلٍ قصده، فلم تحمله العاقلة، كالعمد المحض.
وجوه تغليظ الدّية وتخفيفها في شبه العمد 16 - إنّ القتل شبه العمد واسطة بين العمد والخطأ، فمن جهة أنّ القاتل قصد الفعل يشبه العمد، ومن جهة أنّه لم يقصد القتل يشبه الخطأ، ولهذا روعي في عقوبته التّغليظ والتّخفيف معاً، فتغلّظ الدّية فيه من ناحية أسنان الإبل، وتخفّف من ناحية وجوبها على العاقلة، ومن ناحية التّأجيل فتؤدّى من قبل العاقلة في ثلاث سنين في آخر كلّ سنةٍ ثلثها. قال ابن قدامة: لا أعلم في أنّها تجب مؤجّلةً خلافاً بين أهل العلم، وروي ذلك عن عمر وعليٍّ وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم. ولا تغلّظ الدّية في غير الإبل عند الفقهاء، لأنّها مقدّرة، ولم يرد النّصّ في غير الإبل فيقتصر على التّوقيف. واختلف الجمهور في أسنان الإبل الواجبة في دية القتل شبه العمد: فقال الشّافعيّة وهو رواية عند الحنابلة وقول محمّدٍ من الحنفيّة: إنّها مثلّثة، ثلاثون حقّةً، وثلاثون جذعةً، وأربعون خلفةً في بطونها أولادها. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف، وهو المشهور عند الحنابلة: هي مائة من الإبل أرباعاً: خمس وعشرون بنت مخاضٍ، وخمس وعشرون بنت لبونٍ، وخمس وعشرون حقّةً، وخمس وعشرون جذعةً. وفي بيان مقدار ما تتحمّله العاقلة خلاف وتفصيل: (ر: عاقلة).
17 - الأصل أنّ القتل العمد موجب للقصاص بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى...} الآية. فمن قتل شخصًا عمدًا عدوانًا يقتل قصاصًا باتّفاق الفقهاء. وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الدّية ليست عقوبةً أصليّةً للقتل العمد، وإنّما تجب بالصّلح " برضا الجاني "، كما هو رأي الحنفيّة والمالكيّة أو بدلاً عن القصاص، ولو بغير رضا الجاني، كما هو المعتمد عند الشّافعيّة. فإذا سقط القصاص لسببٍ ما وجبت الدّية عندهم. وذهب الحنابلة وهو قول عند الشّافعيّة: إلى أنّ الدّية عقوبة أصليّة بجانب القصاص في القتل العمد. فالواجب عندهم في القتل العمد أحد شيئين: القود أو الدّية، ويخيّر الوليّ بينهما ولو لم يرض الجاني.
تغليظ الدّية في القتل العمد 18 - الدّية في القتل العمد مغلّظة، سواء أوجب فيه القصاص وسقط بالعفو، أو لشبهةٍ أو نحوهما، أم لم يجب أصلاً، كقتل الوالد ولده. واختلفوا في كيفيّة تغليظ الدّية في القتل العمد: فقال المالكيّة والحنابلة: تجب أرباعاً، خمس وعشرون حقّةً، وخمس وعشرون جذعةً، وخمس وعشرون بنت مخاضٍ، وخمس وعشرون بنت لبونٍ، وتجب في مال الجاني حالّةً، وذلك تغليظًا على القاتل. لكن المالكيّة قالوا: تثلّث الدّية في قتل الأب ولده عمداً إذا لم يقتل به. ففي هذه الحالة يكون التّثليث بثلاثين حقّةً، وثلاثين جذعةً، وأربعين خلفةً أي حاملاً. وقال الشّافعيّة: دية العمد مثلّثة في مال الجاني حالّةً فهي مغلّظة من ثلاثة أوجهٍ: كونها على الجاني، وحالّةً، ومن جهة السّنّ. ولا تؤجّل الدّية في القتل العمد عند جمهور الفقهاء، لأنّ الأصل وجوب الدّية حالّةً بسبب القتل، والتّأجيل في الخطأ ثبت معدولاً به عن الأصل، لإجماع الصّحابة رضي الله عنهم، أو معلولاً بالتّخفيف على القاتل، حتّى تحمل عنه العاقلة، والعامد يستحقّ التّغليظ، ولهذا وجب في ماله لا على العاقلة. وقال الحنفيّة: التّغليظ في القتل العمد كالتّغليظ في شبه العمد من ناحية أسنان الإبل، فتجب أرباعاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وأثلاثاً عند محمّدٍ، كما تقدّم في شبه العمد. إلاّ أنّها تجب في مال الجاني وحده ولا تحملها العاقلة، لأنّها جزاء فعلٍ ارتكبه قصداً وقد قال اللّه تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. وقال صلى الله عليه وسلم: «ولا يجني جانٍ إلاّ على نفسه». وتجب الدّية في القتل العمد مؤجّلةً أيضاً في ثلاث سنين عند الحنفيّة " خلافًا لجمهور الفقهاء" لأنّ الأجل وصف لكلّ ديةٍ وجبت بالنّصّ، فدية القتل العمد مغلّظة من وجهين فقط: أحدهما من ناحية الأسنان، والثّاني أنّها تجب في مال الجاني.
19 - رغّب الشّارع في العفو عن القصاص فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ثمّ قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مالٍ، ولا عفا رجل عن مظلمةٍ إلاّ زاده اللّه عزّاً». واتّفق الفقهاء على أنّه إن عفا عن القصاص مجّاناً فهو أفضل. وتجب الدّية في العفو عن القصاص في الحالات التّالية: أ - عفو جميع أولياء القتيل: 20 - إذا عفا جميع أولياء القتيل ولم يكن بينهم صغير ولا مجنون يسقط القصاص عند جميع الفقهاء، وتسقط الدّية أيضاً عند الحنفيّة وهو الرّاجح عند المالكيّة، لأنّ موجب العمد هو القصاص، وهو الواجب عيناً أي متعيّناً عندهم، فليس للأولياء أن يجبروا الجاني على دفع الدّية، وإنّما لهم أن يعفوا مجّاناً أو يقتصّوا منه، فإذا سقط القصاص بالعفو فلا بديل له من الدّية، إلاّ عن طريق التّراضي والصّلح بين الأولياء والجاني، وإذا حصل الصّلح بينهم جاز العفو على الدّية أو أكثر أو أقلّ منها برضا الجاني، لأنّ بدل الصّلح غير مقدّرٍ. وقال الشّافعيّة والحنابلة: للأولياء أن يعفوا عن القود على الدّية بغير رضا الجاني. والمذهب عند الشّافعيّة أنّه لو أطلق العفو ولم يتعرّض للدّية بنفيٍ أو إثباتٍ فلا تجب الدّية بناءً على القول الرّاجح عندهم، وهو أنّ موجب العمد القود، لأنّ القتل لم يوجب الدّية على هذا القول، والعفو إسقاط شيءٍ ثابتٍ، لا إثبات معدومٍ. وعلى قولٍ آخر عندهم: تجب الدّية، لأنّ الواجب أحدهما، فإذا ترك أحدهما وهو القود وجب الآخر أي الدّية. وقال الحنابلة: يخيّر الأولياء بين القود وأخذ الدّية، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل له قتيل فهو بخير النّظرين، إمّا أن يودى وإمّا أن يقاد». وحيث إنّ الدّية دون القصاص فللوليّ أن ينتقل إليها ولو سخط الجاني، لأنّها أقلّ من حقّه. وإن عفا مطلقاً بأن لم يقيّده بقودٍ ولا ديةٍ، أو قال: عفوت عن القود، فله الدّية، لانصراف العفو إلى القود في مقابلة الانتقام، والانتقام إنّما يكون بالقتل. ب - عفو بعض الأولياء: 21 - إذا عفا بعض الأولياء عن القود دون البعض سقط القصاص عن القاتل، لأنّه سقط نصيب العافي بالعفو، فيسقط نصيب الآخر في القود ضرورةً، لأنّه لا يتجزّأ فلا يتصوّر استيفاء بعضه دون بعضٍ. وفي هذه الحالة يبقى للآخرين نصيبهم من الدّية، وذلك باتّفاق الفقهاء لإجماع الصّحابة رضي الله عنهم، فإنّه روي عن عمر وعبد اللّه بن مسعودٍ وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم أنّهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء للّذين لم يعفوا نصيبهم من الدّية، وذلك بمحضرٍ من الصّحابة رضي الله عنهم، ولم ينقل أنّه أنكر أحد عليهم، فيكون إجماعاً. ويستوي في هذه الحالة عفو أحد الأولياء مجّاناً أو إلى الدّية. ولا يصحّ العفو عن القصاص من قبل الصّغير والمجنون، وإن كان الحقّ ثابتاً لهما، وهذا باتّفاق الفقهاء، لأنّه من التّصرّفات المضرّة المحضة، فلا يملكانه كالطّلاق والعتاق ونحوهما.
22 - صرّح الحنفيّة والمالكيّة بأنّ القاتل إذا مات أو قتل سقط القصاص بفوات محلّه ولا تجب الدّية، لأنّ القصاص في العمد هو الواجب عينًا، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}. الآية، حتّى لا يملك الوليّ أن يأخذ الدّية من القاتل بغير رضاه. وقال الحنابلة: إن مات القاتل أو قتل وجبت الدّية في تركته، لأنّ الواجب بقتل العمد أحد شيئين: القود أو الدّية، ويخيّر الوليّ بينهما، ولو لم يرض الجاني. فإذا تعذّر استيفاء القصاص بموت الجاني بقي حقّه في استيفاء الدّية. وللشّافعيّة في المسألة قولان: الأوّل وهو المعتمد: أنّ موجب القتل العمد القود عيناً، وهذا متّفق مع قول الحنفيّة والمالكيّة، إلاّ أنّهم قالوا: إنّ الدّية بدل عند سقوط القصاص بعفوٍ أو غيره كموت الجاني، فتجب الدّية بغير رضا الجاني. وفي قولٍ آخر: موجب العمد أحد شيئين " القود أو الدّية " مبهماً لا بعينه، وعلى كلا القولين تجب الدّية عند سقوط القصاص بموت الجاني عند الشّافعيّة.
23 - إذا وجد ما يمنع القصاص، فتجب الدّية بدلاً عنه، وقد ذكر الفقهاء لوجوب الدّية حال سقوط القصاص بسبب الشّبهة أمثلة، منها: أ - قتل الوالد ولده: 24 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه إذا قتل الوالد ولده فلا قصاص، لحديث: «لا يقاد الأب من ابنه " وإنّما سقط القصاص عن الوالد لشبهة الجزئيّة وتجب عليه الدّية في ماله. وفي حكم الوالد الجدّ والوالدة عند جمهور الفقهاء. وفي روايةٍ عند الحنابلة تقتل الأمّ بقتل ولدها. وهذا بخلاف قتل الولد للوالد فيجب القصاص عند الجميع. وعلّل الفقهاء ذلك بأنّ القصاص شرع لتحقيق حكمة الحياة بالزّجر والرّدع، والحاجة إلى الزّجر في جانب الولد لا في جانب الوالد، ولأنّ الوالد كان سبباً في حياة الولد فلا يكون الولد سبباً في موته. وقال المالكيّة: إذا قتل الرّجل ابنه متعمّداً، واعترف بقصد قتله، أو فعل به فعلاً من شأنه القتل مثل أن يذبحه أو يشقّ بطنه، ولا شبهة له في ادّعاء الخطأ يقتل به قصاصاً. ب - الاشتراك مع من لا قصاص عليه: 25 - لو اشترك اثنان في قتل رجلٍ أحدهما عليه القصاص لو انفرد، والآخر لا يجب عليه لو انفرد، كالصّبيّ مع البالغ، والمجنون مع العاقل، والخاطئ مع العامد فإنّه لا قصاص على أيّ واحدٍ منهما، وهذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو مذهب المالكيّة في شريك المخطئ والمجنون. فتجب على المتعمّد نصف الدّية في ماله ونصفها على عاقلة المخطئ والمجنون. واستدلّوا لسقوط القصاص في هذه الحالات - كما قال الكاسانيّ - بتمكّن الشّبهة في فعل كلّ واحدٍ منهما، لأنّه يحتمل أن يكون فعل من لا يجب عليه القصاص لو انفرد مستقلّاً في القتل، فيكون فعل الآخر فضلاً. وفي شريك الصّبيّ قال المالكيّة: عليه القصاص إن تمالآ على قتله عمداً، وعلى عاقلة الصّبيّ نصف الدّية، لأنّ عمده كخطئه. وإن لم يتمالآ على قتله وتعمّدا قتله، أو تعمّد الكبير فعليه نصف الدّية في ماله، وعلى عاقلة الصّبيّ نصفها. أمّا إذا اشترك أجنبيّ مع الأب في قتل ولده فالجمهور: " المالكيّة والشّافعيّة وهو الرّاجح عند الحنابلة " على أنّه يقتل شريك الأب، وعلى الأب نصف الدّية مغلّطةً عند من يقول بعدم القصاص عليه. وقال الحنفيّة، وهو رواية عند الحنابلة: لا قصاص على واحدٍ منهما، لتمكّن الشّبهة في فعل كلّ واحدٍ منهما، كشريك الخاطئ والصّبيّ والمجنون، وعلى ذلك فعلى كلّ واحدٍ منهما نصف الدّية. وتفصيله في: (قصاص). ج - إرث الولد حقّ الاقتصاص من أصله: 26 - إذا ورث الولد القصاص من أحد الأبوين على الآخر يسقط القصاص وتجب الدّية وذلك لشبهة الوراثة. فلو قتل أحد الأبوين صاحبه ولهما ولد لم يجب القصاص، لأنّه لو وجب لوجب لولده، ولا يجب للولد قصاص على والده. لأنّه إذا لم يجب بالجناية عليه فلأن لا يجب له بالجناية على غيره أولى. وسواء أكان الولد ذكراً أم أنثى. أو كان للمقتول ولد سواه أو من يشاركه في الميراث أم لم يكن، لأنّه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه ولا يمكن وجوبه. وإذا لم يثبت بعضه سقط كلّه، لأنّ القصاص لا يتبعّض، وصار كما لو عفا بعض مستحقّي القصاص عن نصيبه منه، وهذا عند من يقول بعدم وجوب القصاص على الوالد بسبب قتل ولده، وهم الجمهور. وكذا لو قتل رجل أخاه أو أحداً يرث ابنه حقّ القصاص أو شيئاً منه. وهناك أنواع أخرى تمنع القصاص. ينظر تفصيلها في مصطلحات: (قصاص، قتل، شبهة).
27 - ذهب الحنفيّة إلى عدم وجوب القصاص في القتل بالسّبب مطلقاً، بل تجب الدّية، لأنّهم اشترطوا في القصاص أن يكون القتل مباشرةً، ولا يشترط ذلك عند سائر الفقهاء فيقتصّ من القاتل في بعض حالات التّسبّب عندهم. وهذا في الجملة، وإن اختلفوا في بعض الحالات، ولم يقولوا بالقصاص في حالاتٍ أخرى بل قالوا بوجوب الدّية. وتفصيله في مصطلح: (قتل بالتّسبّب).
28 - اتّفق الفقهاء على أنّ الإبل أصل في الدّية، فتقبل إذا أدّيت منها عند جميع الفقهاء. واختلفوا فيما سوى الإبل: فذهب المالكيّة وأبو حنيفة إلى أنّ أصول الدّية أي ما تقضى منه الدّية من الأموال ثلاثة أجناسٍ: الإبل والذّهب والفضّة، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ في النّفس مائةً من الإبل»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «على أهل الذّهب ألف دينارٍ وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهمٍ». فالدّية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل الذّهب ألف دينارٍ من الذّهب وعلى أهل الورق " الفضّة " اثنا عشر ألف درهمٍ، عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة: لقوله صلى الله عليه وسلم: «على أهل الذّهب ألف دينارٍ وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهمٍ» ولما روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما «أنّ رجلاً قتل فجعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً». قال النّفراويّ المالكيّ: صرف دينار الدّية اثنا عشر درهماً، كدينار السّرقة والنّكاح، بخلاف دينار الجزية والزّكاة فصرفه عشرة دراهم، وأمّا دينار الصّرف فلا ينضبط. وقال الحنفيّة: الدّية من الورق عشرة آلاف درهمٍ، لقول عمر رضي الله عنه: " الدّية عشرة آلاف درهمٍ "، وكان ذلك بمحضرٍ من الصّحابة رضي الله عنهم ولم ينقل أنّه أنكر عليه أحد، فيكون إجماعاً مع أنّ المقادير لا تعرف إلاّ سماعاً فالظّاهر أنّه سمعه من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولما روى ابن عمر رضي الله عنهما «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بالدّية في قتيلٍ بعشرة آلاف درهمٍ» ولأنّ الدّينار مقوّم في الشّرع بعشرة دراهم، كما في الزّكاة، فإنّ نصاب الفضّة في الزّكاة مقدّر بمائتي درهمٍ، ونصاب الذّهب فيها بعشرين ديناراً. قال الزّيلعيّ: يحمل ما رواه الشّافعيّ ومن معه على وزن خمسةٍ، وما رويناه على وزن ستّةٍ، وهكذا كانت دراهمهم في زمان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى زمان عمر رضي الله عنه فاستويا. وبهذا ظهر أنّ الاختلاف في مقدار الدّية يرجع إلى سعر صرف الدّينار. والمذهب عند الحنابلة، وهو قول الصّاحبين من الحنفيّة أنّ أصول الدّية خمسة: الإبل والذّهب والورق والبقر والغنم، وهذا قول عمر وعطاءٍ وطاوسٍ وفقهاء المدينة السّبعة، وابن أبي ليلى. وزاد عليها أبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة - وهو رواية عن أحمد - الحلل، فتكون أصول الدّية ستّة أجناسٍ. واستدلّوا بما روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه، أنّ عمر قام خطيباً فقال: ألا إنّ الإبل قد غلت.. ففرضها على أهل الذّهب ألف دينارٍ وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا وعلى أهل البقر مائني بقرةٍ، وعلى أهل الشّاء ألفي شاةٍ، وعلى أهل الحلل مائتي حلّةٍ. وعلى ذلك فأيّ شيءٍ أحضره من عليه الدّية من الجاني أو العاقلة من هذه الأصول لزم الوليّ أو المجنيّ عليه أخذه، ولم يكن له المطالبة بغيره، سواء أكان من أهل ذلك النّوع أم لم يكن، لأنّها أصول في قضاء الواجب يجزئ واحد منها، فكانت الخيرة إلى من وجبت عليه. وقال الشّافعيّ: وهو رواية عن أحمد وظاهر كلام الخرقيّ من الحنابلة، وقول طاوسٍ وابن المنذر: إنّ الأصل في الدّية الإبل لا غير، لقوله: «ألا إنّ قتيل الخطأ شبه العمد ما كان بالسّوط والعصا مائة من الإبل». ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فرّق بين دية العمد والخطأ فغلّظ بعضها وخفّف بعضها، ولا يتحقّق هذا في غير الإبل، ولأنّه بدل متلفٍ " وجب " حقّاً لآدميٍّ، فكان متعيّناً كعوض الأموال. وعلى ذلك فمن تجب عليه الدّية وله إبل تؤخذ الدّية منها سليمةً من العيوب، وأيّهما أراد المعدول عنها إلى غيرها فللآخر منعه، ولا يعدل إلى نوعٍ آخر أو قيمته إلاّ بتراضٍ من المودي والمستحقّ، لأنّ الحقّ متعيّن في الإبل فاستحقّت كالمثل في المثليّات المتلفة. ولو عدمت إبل الدّية حسّاً بأن لم توجد في موضعٍ يجب تحصيلها منه، أو شرعاً بأن وجدت فيه بأكثر من ثمن مثلها، فالواجب ألف دينارٍ على أهل الدّنانير أو اثنا عشر ألف درهمٍ فضّةً على أهل الدّراهم، وهذا قول الشّافعيّ في القديم لحديث: «على أهل الذّهب ألف دينارٍ وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهمٍ» وفي القول الجديد للشّافعيّ تجب قيمتها وقت وجوب تسليمها بنقد بلده الغالب بالغةً ما بلغت، لأنّه بدل متلفٍ، فيرجع إلى قيمتها عند إعواز الأصل. وقال المالكيّة: أهل البوادي من كلّ إقليمٍ من أهل الإبل فإن لم يوجد عندهم إلاّ الخيل والبقر فلا نصّ، والظّاهر تكليفهم بما يجب على حاضرتهم من ذهبٍ أو فضّةٍ، وقيل: يكلّفون قيمة الإبل. 29 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ دية الذّكر الحرّ المسلم هي مائة من الإبل أو ما يقوم مقامها على ما سبق تفصيله. كما أنّه لا خلاف في مقدار الدّية من البقر والغنم والحلل عند من يقول بها.
30 - ذهب الفقهاء إلى أنّ دية الأنثى الحرّة المسلمة هي نصف دية الذّكر الحرّ المسلم، هكذا روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعن عمر وعليٍّ وابن مسعودٍ وزيد بن ثابتٍ رضي الله عنهم. قال ابن المنذر وابن عبد البرّ: أجمع أهل العلم على أنّ دية المرأة نصف دية الرّجل، لما روى معاذ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «دية المرأة على النّصف من دية الرّجل». ولأنّها في الشّهادة والميراث على النّصف من الرّجل فكذلك في الدّية. وهذا في دية النّفس، أمّا في دية الأطراف والجروح فاختلفوا: فقال الحنفيّة والشّافعيّة إنّها على النّصف من دية أطراف وجراح الرّجل أيضاً، لما روي عن عليٍّ رضي الله عنه قال: عقل المرأة على النّصف من الرّجل في النّفس وفيما دونها. وروي ذلك عن ابن سيرين، وبه قال الثّوريّ واللّيث وابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو ثورٍ، واختاره ابن المنذر: لأنّهما شخصان تختلف ديتهما في النّفس فاختلفت في الأطراف. وقال المالكيّة والحنابلة: تساوي المرأة الرّجل في دية الأطراف إلى ثلث دية الرّجل. فإذا بلغت الثّلث رجعت إلى عقلها، فإذا قطع لها ثلاث أصابع فلها ثلاثون من الإبل كالرّجل، وإذا قطع لها أربع أصابع فإنّها تأخذ نصف ما يأخذه الرّجل: أي تأخذ عشرين من الإبل، وروي ذلك عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابتٍ رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيّب وعمر بن عبد العزيز، وعروة والزّهريّ، وهو قول فقهاء المدينة السّبعة، وذلك لما روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «عقل المرأة مثل عقل الرّجل حتّى يبلغ الثّلث من ديتها». وهو نصّ يقدّم على ما سواه.
31 - إذا كان المقتول خنثى مشكلاً ففيه نصف دية ذكرٍ ونصف دية أنثى عند المالكيّة والحنابلة، لأنّه يحتمل الذّكوريّة والأنوثيّة، وقد يئسنا من انكشاف حاله فيجب التّوسّط بينهما بكلا الاحتمالين. وقال الحنفيّة: إذا قتل خطأً وجبت دية المرأة ويوقف الباقي إلى التّبيّن. وقال الشّافعيّة: الخنثى كالأنثى في الدّية فيجب في قتلها نصف الدّية، لأنّ زيادته عليها مشكوك فيها.
32 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا دية للحربيّ، لأنّه لا عصمة له. أمّا الذّمّيّ والمستأمن فقد اختلفوا في مقدار الدّية فيهما: فذهب المالكيّة والحنابلة، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وعروة وعمرو بن شعيبٍ أنّ دية الكتابيّ الذّمّيّ والمعاهد نصف دية الحرّ المسلم، لما روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «دية المعاهد نصف دية الحرّ»، وفي لفظٍ: «دية عقل الكافر نصف دية عقل المؤمن». وورد من حديث عبد اللّه بن عمر: «دية المعاهد نصف دية المسلم». وأهل الكتاب هم اليهود والنّصارى، ودية المجوسيّ ثمانمائة درهمٍ عند المالكيّة والحنابلة، وبه قال عمر وعثمان وابن مسعودٍ رضي الله عنهم، وكذلك المرتدّ عند المالكيّة. وهذا في دية النّفس. قال المالكيّة: ودية جراح أهل الكتاب كذلك على النّصف من دية جراح المسلمين. وقال الحنابلة: جراحات أهل الكتاب من دياتهم كجراح المسلمين من دياتهم. وتغلّظ دياتهم باجتماع الحرمات عند من يرى تغليظ ديات المسلمين. والصّحيح عند الحنفيّة أنّ الذّمّيّ - كتابيّاً كان أو غيره - والمستأمن والمسلم في الدّية سواء وهذا قول إبراهيم النّخعيّ والشّعبيّ، وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن مسعودٍ ومعاوية رضي الله عنهم. فلا يختلف قدر الدّية بالإسلام والكفر عند الحنفيّة لتكافؤ الدّماء، وذلك لقوله تعالى: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}. أطلق سبحانه وتعالى القول بالدّية في جميع أنواع القتل من غير فصلٍ، فدلّ على أنّ الواجب في الكلّ واحد. وروي «أنّ عمرو بن أميّة الضّمريّ قتل مستأمنين فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيهما بدية حرّين مسلمين». وروى الزّهريّ أنّ أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهما قضيا في دية الذّمّيّ بمثل دية المسلم، ولأنّ وجوب كمال الدّية يعتمد على كمال حال القتل فيما يرجع إلى أحكام الدّنيا وهي الذّكورة والحرّيّة والعصمة وقد وجدت، ونقل عن بعض الحنفيّة أنّه لا دية في المستأمن. وقال الشّافعيّة: دية كلٍّ من اليهوديّ أو النّصرانيّ إذا كان له أمان وتحلّ مناكحته ثلث دية المسلم نفساً وغيرها، ودية الوثنيّ والمجوسيّ إذا كان لهما أمان ثلثا عشر دية المسلم، ومثل المجوسيّ عابد الشّمس والقمر والزّنديق ممّن له أمان، وذلك لما روى سعيد بن المسيّب أنّ عمر رضي الله عنه جعل دية اليهوديّ والنّصرانيّ أربعة آلاف درهمٍ ودية المجوسيّ ثمانمائة درهمٍ، وهذا التّقدير لا يفعل بلا توقيفٍ، فأمّا غير المعصوم فدمه هدر. وهذا كلّه في الذّكور، أمّا الإناث من الكفّار اللّواتي لهم أمان فديتهنّ نصف دية الذّكور منهم اتّفاقاً. قال ابن قدامة: لا نعلم في هذا خلافاً، ونقل ابن المنذر إجماع أهل العلم على أنّ دية المرأة نصف دية الرّجل.
33 - اتّفق الفقهاء على أنّ الواجب في الجناية الّتي ترتّب عليها انفصال الجنين عن أمّه ميّتاً هو غرّة، سواء أكانت الجناية بالضّرب أم بالتّخويف أم الصّياح أم غير ذلك، وسواء أكانت الجناية عمداً أم خطأً، ولو من الحامل نفسها أو من زوجها. لما ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أنّ امرأتين من هذيلٍ رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها، فقضى فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بغرّة عبدٍ أو وليدةٍ». والغرّة نصف عشر الدّية الكاملة، وهي خمس من الإبل أو خمسون ديناراً، ولا تختلف الغرّة بذكورة الجنين وأنوثته، فهي في كليهما سواء (ر: غرّة). وأمّا جنين الكتابيّة والمجوسيّة ممّن لهنّ أمان إذا كان محكوماً بكفره ففيه عشر دية أمّه، لأنّ جنين الحرّة المسلمة مضمون بعشر دية أمّه فكذلك جنين الكافرة. وهذا إذا ألقته نتيجةً للجناية ميّتاً في حياتها. أمّا إذا ألقته حيّاً حياةً مستقرّةً ثمّ مات نتيجةً للجناية: كأن مات بعد خروجه مباشرةً أو دام ألمه ثمّ مات ففيه دية كاملة اتّفاقاً، لأنّه قتل إنسانٍ حيٍّ. وإذا ألقته نتيجةً، للجناية عليها ميّتًا بعد موتها فاختلفوا فيه: فقال الحنفيّة والمالكيّة: في الأمّ الدّية، ولا شيء في الجنين، لأنّ موتها سبب لموته، لأنّه يختنق بموتها، فإنّه إنّما يتنفّس بنفسها، واحتمل موته بالضّربة فلا تجب الغرّة بالشّكّ. وقال الشّافعيّة والحنابلة: تجب فيه غرّة أيضاً، لأنّه جنين تلف بحنايةٍ، وعلم ذلك بخروجه فوجب ضمانه، كما لو سقط في حياتها، ولأنّه آدميّ موروث فلا يدخل في ضمان أمّه كما لو خرج حيّاً. وإن ألقت جنينين ميّتين أو أكثر ففي كلّ واحدةٍ غرّة باتّفاق الفقهاء، لأنّه ضمان آدميٍّ فتتعدّد الغرّة بتعدّده كالدّيات. وإن ألقتهم أحياء ثمّ ماتوا ففي كلّ واحدٍ دية كاملة، وإن كان بعضهم حيّاً فمات، وبعضهم ميّتًا، ففي الحيّ دية كاملة، وفي الميّت غرّة. وإن ظهر بعض خلقه من بطن أمّه ميّتاً ولم يخرج باقيه ففيه غرّة أيضاً عند الحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة. وقال مالك، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة: لا تجب الغرّة حتّى تلقيه كاملاً. قال الشّافعيّة: ولو ألقت يداً أو رجلاً وماتت فتجب غرّة، لأنّ العلم قد حصل بوجود الجنين، والغالب على الظّنّ أنّ اليد بانت بالجناية، ولو عاشت ولم تلق جنيناً فلا يجب إلاّ نصف غرّةٍ، كما أنّ يد الحيّ لا يجب فيها إلاّ نصف ديةٍ ولا يضمن باقيه، لأنّا لم نتحقّق تلفه. وظاهره أنّه يجب للعضو الزّائد حكومة، ولو ألقت يداً ثمّ جنيناً ميّتاً بلا يدٍ قبل الاندمال وزال الألم من الأمّ فغرّة، لأنّ الظّاهر أنّ اليد مبانة منه بالجناية، أو حيّاً فمات من الجناية فدية ودخل فيها أرش اليد، فإن عاش وشهد القوابل أو علم أنّها يد من خلقت فيه الحياة فنصف ديةٍ لليد، وإن لم يشهد القوابل بذلك ولم يعلم فنصف غرّةٍ لليد عملاً باليقين، أو ألقته بعد الاندمال وزال الألم أهدر الجنين لزوال الألم الحاصل بالجناية، ووجب لليد الملقاة قبله إن خرج ميّتاً نصف غرّةٍ، أو حيّاً ومات أو عاش فنصف ديةٍ إن شهد القوابل أو علم أنّها يد من خلقت فيه الحياة، وإن انفصل بعد إلقاء اليد ميّتاً كامل الأطراف بعد الاندمال فلا شيء فيه، وفي اليد حكومة، أو قبل الاندمال ميّتاً فغرّة فقط لاحتمال أنّ اليد الّتي ألقتها كانت زائدةً ; لهذا الجنين وانمحق أثرها، أو حيّاً ومات فدية لا غرّة، وإن عاش فحكومة، وتأخّر اليد عن الجنين إلقاء كتقدّمٍ لذلك فيما ذكر، وكذا لحم ألقته امرأة بحنايةٍ عليها يجب فيه غرّة إذا قال القوابل وهنّ أهل الخبرة فيه صورة خفيّة على غيرهنّ فلا يعرفها سواهنّ لحذقهنّ، ونحوه للحنابلة.
موجبات الدّية في الاعتداء على ما دون النّفس ثلاثة أقسامٍ، وهي إبانة الأطراف، وإتلاف المعاني، والشّجاج والجروح.
34 - اتّفق الفقهاء في الجملة على أنّ في قطع ما لا نظير له في بدن الإنسان كالأنف واللّسان والذّكر والحشفة والصّلب إذا انقطع المنيّ، ومسلك البول، ومسلك الغائط ديةً كاملةً. ومن أتلف ما في البدن منه شيئان كالعينين والأذنين، واليدين، والرّجلين، والشّفتين والحاجيين إذا ذهب شعرهما نهائيّاً ولم ينبت، والثّديين، والحلمتين، والأنثيين، والشّفرين واللّحيين، والأليتين إذا تلفتا معاً ففيهما دية كاملة: وفي إحداهما نصف الدّية، ومن أتلف ما في الإنسان منه أربعة أشياء، كأشفار العينين والأجفان ففيها الدّية، وفي كلّ واحدٍ منها ربع الدّية، وما فيه منه عشرة أشياء، كأصابع اليدين، وأصابع الرّجلين ففي جميعها الدّية الكاملة، وفي كلّ واحدٍ منها عشر الدّية، وما في الأصابع من المفاصل " السّلاميّات " ففي أحدها ثلث دية الأصبع، ونصف دية الأصبع فيما فيها مفصلان وهي الإبهام خاصّةً، وفي جميع الأسنان دية كاملة، وفي كلّ سنٍّ خمس من الإبل. وهذا في الجملة. والأصل فيه ما ورد في «الكتاب الّذي كتبه صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن أنّ في النّفس الدّية وفي اللّسان الدّية وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدّية». فالنّصّ الوارد في البعض يكون وارداً في الباقي دلالةً، لأنّه في معناه. والأصل في الأعضاء أنّه إذا فوّت جنس منفعةٍ على الكمال، أو أزال جمالاً مقصوداً في الآدميّ على الكمال يجب كلّ الدّية، لأنّ فيه إتلاف النّفس من وجهٍ، إذ النّفس لا تبقى منتفعًا بها من ذلك الوجه، وإتلاف النّفس من وجهٍ ملحق بالإتلاف من كلّ وجهٍ في الآدميّ تعظيمًا له كما قال الزّيلعيّ. وفيما يلي تفصيل ذلك عند الفقهاء:
أ - دية الأنف: 35 - الأنف إذا قطع كلّه أو قطع المارن منه " وهو ما لان من الأنف وخلا من العظم " ففيه دية كاملة، لما روي في كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن: «وإنّ في الأنف إذا أوعب جدعه الدّية». ولأنّ فيه جمالاً ومنفعةً زالتا بالقطع فوجبت الدّية الكاملة. ثمّ إنّ الشّافعيّة والحنابلة قالوا: في قطع كلٍّ من طرفي المارن المسمّيين بالمنخرين، وفي الحاجز بينهما ثلث الدّية، توزيعاً للدّية عليها. وفي قولٍ عند الشّافعيّة وهو وجه عند الحنابلة في الحاجز حكومة عدلٍ، وفيهما دية، لأنّ الجمال وكمال المنفعة فيهما دون الحاجز. وقال المالكيّة: ما نقص من الأنف ففيه بحسابه من الدّية، والنّقص يقاس من المارن، لا من الأصل. ب - دية اللّسان: 36 - اتّفق الفقهاء على أنّه تجب الدّية الكاملة في قطع اللّسان المتكلّم به إذا استوعب قطعاً، وروي ذلك عن أبي بكرٍ وعمر وعليٍّ رضي الله عنهم. وورد في كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم. إلى أهل اليمن: «وفي اللّسان الدّية» ولأنّ فيه جمالاً ومنفعةً. أمّا الجمال فقد روي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الجمال فقال: في اللّسان». وأمّا المنفعة فإنّ به تبلّغ الأغراض وتستخلص الحقوق وتقضى الحاجات وتتمّ العبادات، والنّطق يمتاز به الآدميّ عن سائر الحيوانات، وبه مَنّ اللّه تعالى على الإنسان بقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وكذا تجب الدّية بقطع بعضه إذا امتنع من الكلام، لأنّ الدّية تجب ; لتفويت المنفعة، وقد حصل بالامتناع عن الكلام. ولو قدر على الكلام ببعض الحروف دون بعضٍ، تقسم الدّية على عدد الحروف وهي ثمانية وعشرون، فما نقص من الحروف وجب من الدّية بقدره، وقيل: تقسم الدّية على الحروف الّتي تتعلّق باللّسان دون الشّفة والحلق، فتستثنى منها الحروف الشّفويّة، وهي أربعة: الباء، والميم، والفاء، والواو، وحروف الحلق وهي ستّة هي: الهمزة، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء، فتبقى ثمانية عشر حرفًا تنقسم الدّية عليها. وقال المالكيّة: في اللّسان الدّية، فإن قطع بعضه فإن منع جملة الكلام ففيه الدّية. وقالوا أيضاً: الدّية في الكلام لا في اللّسان، فإن قطع من لسانه ما ينقص من حروفه فعليه بقدر ذلك، ولا يحتسب في الكلام على عدد الحروف، فربّ حرفٍ أثقل من حرفٍ في النّطق، ولكن بالاجتهاد فيما نقص من الكلام. قطع لسان الأخرس والصّغير: 37 - لا دية في قطع لسان الأخرس عند الفقهاء بل تجب فيه حكومة عدلٍ، لأنّ المقصود منه الكلام، ولا كلام فيه فصار كاليد الشّلّاء. وهذا إذا لم يذهب بقطعه الذّوق، وإلاّ تجب الدّية كما سيأتي عند الكلام عن إزالة المنافع، أمّا إذا قطع لسان الصّغير الّذي لا يتكلّم لصغره فقال الشّافعيّة والحنابلة: تجب فيه الدّية، لأنّ ظاهره السّلامة، وإنّما لم يتكلّم لأنّه لا يحسن الكلام، فوجبت به الدّية كالكبير ويخالف الأخرس، فإنّه علم أنّه أشلّ، ولأنّ الدّية تجب في سائر أعضاء الصّغير فكذلك في قطع لسانه، وإن بلغ حدّاً يتكلّم مثله فلم يتكلّم فقطع لسانه لم تجب الدّية، لأنّ الظّاهر أنّه لا يقدر على الكلام فيجب فيه ما يجب في لسان الأخرس. وفي قولٍ عند الشّافعيّة: يشترط لوجوب الدّية في لسان الصّغير ظهور أثر نطق بتحريكه لبكاءٍ ومصّ ثديٍ ونحوهما، لأنّها أمارات ظاهرة على سلامة اللّسان، فإن لم يظهر فحكومة، لأنّ سلامته غير متيقّنةٍ، والأصل براءة الذّمّة. ولم نعثر للمالكيّة على نصٍّ في هذه المسألة. ج - دية الذّكر والحشفة: 38 - اتّفق الفقهاء على أنّه تجب الدّية الكاملة في قطع تمام الحشفة " رأس الذّكر " كما تجب في قطع الذّكر من أصله، لأنّ معظم منافع الذّكر من لذّة المباشرة، وأحكام الوطء، والإيلاد، واستمساك البول ونحوها تتعلّق بها، والحشفة أصل في منفعة الإيلاج والدّفق، والقصبة كالتّابع لها. وإذا قطع بعض الحشفة ففيه بحسابه من الدّية، ويقاس من الحشفة لا من أصل الذّكر، وقال الحنابلة وهو قول عند الشّافعيّة: يجب بقسطه من كلّ الذّكر، لأنّه هو المقصود بكمال الدّية. قال الشّافعيّة: وهذا إذا لم يختلّ مجرى البول، فإن اختلّ ولم ينقطع البول فعليه أكثر الأمرين من قسط الدّية وحكومة فساد المجرى. أمّا إذا انقطع البول وفسد مسلكه فسيأتي بيانه. وتجب الدّية في ذكر الصّغير والكبير والشّيخ والشّابّ على السّواء، سواء أقدر على الجماع أم لم يقدر عند جمهور الفقهاء، لعموم ما ورد في كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن «وفي الذّكر الدّية»، وقال الحنفيّة في الصّغير: إن علمت صحّته بحركةٍ للبول ونحوه ففيه الدّية، وإن لم تعلم صحّته ففيه حكومة عدلٍ. أمّا ذكر العنّين والخصيّ فقال الشّافعيّة وهو رواية عند الحنابلة: إنّه تجب فيهما الدّية لعموم الحديث ولأنّ ذكر الخصيّ سليم قادر على الإيلاج وإنّما الفائت الإيلاد، والعنّة عيب في غير الذّكر، لأنّ الشّهوة في القلب والمنيّ في الصّلب. وقال الحنفيّة وهو رواية أخرى عند الحنابلة: لا تكمل ديتهما، لأنّ منفعته الإنزال والإحبال والجماع وقد عدم ذلك فيهما على وجه الكمال، فلم تكمل ديتهما، وإذا لم تجب فيهما دية كاملة تجب فيهما حكومة عدلٍ. وفصّل المالكيّة في العنّين والخصيّ فقالوا: إذا كان معترضاً عن جميع النّساء ففيه قولان: لزوم الدّية، وقيل حكومة عدلٍ، وإن كان معترضاً عن بعض النّساء ففيه الدّية اتّفاقاً عندهم. د - دية الصّلب: 39 - صلب الرّجل إذا انكسر وذهب مشيه أو جماعه ففيه دية كاملة عند جميع الفقهاء. وكذلك إذا انكسر واحدودب وانقطع الماء، فلم ينجبر وإن لم يذهب جماعه ولا مشيه، لما ورد في كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «وفي الصّلب الدّية»، وعن سعيد بن المسيّب أنّه قال: «مضت السّنّة أنّه في الصّلب الدّية»، ولأنّه عضو ليس في البدن مثله، وفيه جمال ومنفعة، فوجبت فيه دية كاملة كالأنف. وأطلق الحنابلة القول بوجوب الدّية في كسر الصّلب وإن لم تذهب منافعه من المشي والقدرة على الجماع، ولم ينقطع الماء. هـ - دية إتلاف مسلك البول ومسلك الغائط: 40 - تجب الدّية الكاملة في إتلاف مسلك البول ومسلك الغائط، وفي إفضاء المرأة من قبل الزّوج أو غيره، وهو رفع ما بين مدخل ذكرٍ ودبرٍ، فيصير مسلك جماعها وغائطها واحداً. وقيل: الإفضاء رفع ما بين مدخل ذكرٍ ومخرج بولٍ، فيصير سبيل جماعها وبولها واحداً، وفي هذه الحالة تجب دية كاملة عند الحنفيّة والشّافعيّة وهو قول ابن القاسم من المالكيّة إذ به تفوت المنفعة بالكلّيّة لأنّه يمنعها من اللّذّة، ولا تمسك الولد ولا البول إلى الخلاء، ولأنّ مصيبتها أعظم من المصابة بالشّفرين، كما علّله ابن شعبان من المالكيّة. وفي قولٍ آخر للمالكيّة، وهو مذهب المدوّنة في الإفضاء حكومة عدلٍ. وقال الحنابلة: في الإفضاء ثلث الدّية، كما روي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قضى فيه بذلك، وقالوا: إن استطلق بولها مع الإفضاء ففيه دية كاملة.
الأذنان: 41 - ذهب جمهور الفقهاء " الحنفيّة والحنابلة وهو المذهب عند الشّافعيّة ورواية عند المالكيّة " إلى أنّ في استيصال الأذنين قلعاً أو قطعاً كمال الدّية، وفي قلع أو قطع إحداهما نصفها. وروي ذلك عن عمر وعليٍّ رضي الله عنهما، وبه قال عطاء ومجاهد والحسن وقتادة، والثّوريّ والأوزاعيّ، وذلك لخبر عمرو بن حزمٍ: «في الأذن خمسون من الإبل» ولأنّهما عضوان فيهما جمال ومنفعة، وفي قلعهما أو قطعهما تفويت الجمال على الكمال، فوجب أن يكون فيهما الدّية الكاملة. وسواء أذهب السّمع أم لم يذهب، وسواء أكان سميعاً أم أصمّ، لأنّ الصّمم نقص في غير الأذن فلم يؤثّر في ديتهما. وفي وجهٍ أو قولٍ مخرّجٍ عند الشّافعيّة ورواية عند المالكيّة: تجب في الأذنين حكومة عدلٍ إلاّ إذا ذهب السّمع ففيه دية اتّفاقاً. وثالث الأقوال عند المالكيّة: هو أنّ في الأذنين حكومةً مطلقاً. قال الموّاق: وهذا هو المشهور. العينان: 42 - لا خلاف بين الفقهاء أنّ في قطع أو فقء العينين ديةً كاملةً، وفي إحداهما نصف الدّية، سواء أكانت العين كبيرةً أم صغيرةً، صحيحةً أم مريضةً، سليمةً أم حولاء، وذلك لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «وفي العينين الدّية». ولأنّ في تفويت الاثنين منهما تفويت جنس المنفعة أو الجمال على الكمال، فيجب فيه كمال الدّية، وفي تفويت أحدهما تفويت النّصف، فيجب نصف الدّية. هذا في العيون المبصرة، أمّا العين العوراء فلا دية في قلعها بل تجب حكومة عدلٍ. واختلفوا في قلع العين السّليمة من الأعور. فقال المالكيّة والحنابلة، وهو قول ضعيف عند الشّافعيّة: تجب في قلع عين الأعور السّليمة دية كاملة، وبه قال الزّهريّ واللّيث وقتادة وإسحاق، لأنّ عمر وعثمان وعليّاً وابن عمر رضي الله عنهم قضوا في عين الأعور بالدّية، ولم نعلم لهم في الصّحابة مخالفاً، فيكون إجماعاً ولأنّ قلع عين الأعور يتضمّن إذهاب البصر كلّه، فوجبت الدّية الكاملة، كما لو أذهبه من العينين، لأنّ السّليمة الّتي عطّلها بمنزلة عيني غيره. وقال الحنفيّة، وهو المشهور في المذهب عند الشّافعيّة وقول مسروقٍ وعبد اللّه بن مغفّلٍ والثّوريّ والنّخعيّ: إذا قلع عين الأعور الأخرى ففيها نصف الدّية، لقوله صلى الله عليه وسلم: «وفي العين خمسون من الإبل». وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «وفي العينين الدّية» يقتضي أن لا يكون فيهما أكثر من ذلك، فإذا قلعت عين شخصٍ ووجبت فيها نصف الدّية ثمّ قلعت الثّانية، فقالع الثّانية قالع عين أعور، فلو وجبت فيه دية كاملة لوجب فيهما دية ونصف ديةٍ. اليدان: 43 - اتّفق الفقهاء على وجوب الدّية في قطع اليدين ووجوب نصفها في قطع إحداهما، لما روي من حديث عمرو بن حزمٍ: «وفي اليدين الدّية، وفي اليد خمسون من الإبل» ولأنّ فيهما جمالاً ظاهراً ومنفعةً كاملةً، وليس في البدن من جنسهما غيرهما، فكان فيهما الدّية كالعينين. ويجب في قطع الكفّ تحت الرّسغ ما يجب في الأصابع على ما يأتي تفصيله، لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الأصابع: «في كلّ أصبعٍ عشر من الإبل» من غير فصلٍ بين ما إذا قطعت الأصابع وحدها أو قطعت الكفّ الّتي فيها الأصابع. وهذا في اليد السّليمة، أمّا اليد الشّلّاء فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا دية في قطعها بل فيه حكومة عدلٍ، وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهو رواية عند الحنابلة، لأنّها قد ذهبت منفعتها من قبل، فلم تفت المنفعة بالقطع، ولا تقدير فيها، فتجب فيها حكومة عدلٍ. وفي روايةٍ عند الحنابلة أنّ في اليد الشّلّاء ثلث ديتها، لما روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه قال: «قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في اليد الشّلّاء إذا قطعت بثلث ديتها»، وحد اليد الّتي تجب فيها الدّية من الرّسغ أو الكوع، لأنّ اسم اليد عند الإطلاق ينصرف إليه، بدليل أنّ اللّه تعالى قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} والواجب قطعهما من الكوع. واختلف الفقهاء فيما إذا قطع ما فوق الكوع أي من بعض السّاعد أو المرفق أو المنكب: فقال الشّافعيّة والحنفيّة فيما رواه أبو يوسف: إن قطعها مع نصف السّاعد أو من المرفق أو المنكب ففي الكفّ نصف الدّية، وفي الزّيادة حكومة عدلٍ، لأنّها ليست بتابعةٍ للكفّ. وهو إحدى روايتين عن أبي يوسف. وقال الحنابلة، وهو رواية أخرى عن أبي يوسف: إنّ ما زاد على أصابع اليد فهو تبع للأصابع إلى المنكب، فإن قطع يده من فوق الكوع مثل أن يقطعها من المرفق أو نصف السّاعد فليس عليه إلاّ دية واحدة، لأنّ اليد اسم للجميع إلى المنكب بدليل قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق} ولمّا نزلت آية التّيمّم مسح الصّحابة إلى المناكب، وقال ثعلب: اليد إلى المنكب، وفي عرف النّاس أنّ جميع ذلك يسمّى يداً، فإذا قطعها من فوق الكوع فما قطع إلاّ يداً واحدةً، والشّرع أوجب في اليد الواحدة نصف الدّية فلا يزاد على تقدير الشّرع. وفصّل المالكيّة فقالوا: في اليدين سواء من المنكب أو المرفق أو الكوع دية، وكذلك في الأصابع، وأمّا إن قطع الأصابع أو مع الكفّ فأخذت الدّية ثمّ حصلت جناية عليها بعد إزالة الأصابع فحكومة، سواء أقطع اليد من الكوع، أم المرفق، أم المنكب. وسيأتي تفصيل دية الأصابع في موضعها. الأنثيان: 44 - الأنثيان والبيضتان في قطعهما دية كاملة باتّفاق الفقهاء، لما ورد في حديث عمرو بن حزمٍ: «وفي البيضتين الدّية»، ولأنّ فيهما الجمال والمنفعة، فإنّ النّسل يكون بهما بإرادة اللّه تعالى، فكانت فيهما الدّية الكاملة، وروى الزّهريّ عن سعيدٍ بن المسيّب أنّه قال: «مضت السّنّة أنّ في الصّلب الدّية، وفي الأنثيين الدّية، وفي إحداهما نصف الدّية». ولا فرق بين اليسرى واليمنى فتجب في كلّ واحدةٍ منهما نصف الدّية. واتّفق الفقهاء على أنّه لو قطع الأنثيين والذّكر معاً تجب ديتان. وكذا لو قطع الذّكر ثمّ قطع الأنثيين عند جمهور الفقهاء " الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ". أمّا إذا قطع أنثييه ثمّ قطع ذكره ففيه دية للأنثيين، وحكومة للذّكر عند الحنفيّة، وهو المشهور عند الحنابلة، لفوات منفعة الذّكر قبل قطعه، فهو ذكر خصيٍّ. وعند الشّافعيّة وهو رواية أخرى عند الحنابلة تجب في هذه الصّورة ديتان بناءً على قولهم بوجوب الدّية في قطع ذكر الخصيّ والعنّين. أمّا المالكيّة فقالوا: إن قطعت الأنثيان مع الذّكر ففي ذلك ديتان، وإن قطعتا قبل الذّكر أو بعده ففيهما الدّية، وإن قطع الذّكر قبلهما أو بعدهما ففيه الدّية، ومن لا ذكر له ففي أنثييه الدّية، ومن لا أنثيين له ففي ذكره الدّية. اللّحيان: 45 - اللّحيان هما العظمان اللّذان تنبت عليهما الأسنان السّفلى، وملتقاهما الذّقن، وقد صرّح فقهاء الشّافعيّة والحنابلة بأنّ في اللّحيين ديةً كاملةً، وفي إحداهما نصف الدّية كالأذنين. وعلّلوا وجوب الدّية فيهما بأنّ فيهما جمالاً ومنفعةً، وليس في البدن مثلهما فكانت فيهما الدّية كسائر ما في البدن منه شيئان، وإن قلعهما بما عليهما من أسنانٍ وجبت ديتهما ودية الأسنان، ولم تدخل دية الأسنان في ديتهما، بخلاف دية الأصابع فإنّها تدخل في دية اليد. ووجه الفرق أنّ اللّحيين يوجدان قبل وجود الأسنان في الخلقة ويبقيان بعد ذهابها في حقّ الكبير، وإنّ كلّ واحدٍ من اللّحيين والأسنان ينفرد باسمه، ولا يدخل أحدهما في اسم الآخر، بخلاف الأصابع والكفّ، فإنّ اسم اليد يشملهما، وأنّ الأسنان مغروزة في اللّحيين ولا تعتبر جزءاً منهما بخلاف الكفّ مع الأصابع، لأنّهما كالعضو الواحد. واستشكل المتولّي من الشّافعيّة إيجاب الدّية في اللّحيين بأنّه لم يرد فيهما خبر، والقياس لا يقتضيه، لأنّهما من العظام الدّاخلة فيشبهان التّرقوة والضّلع، وأيضاً فإنّه لا دية في السّاعد والعضد والسّاق والفخذ، وهي عظام فيها جمال ومنفعة. وقال الزّيلعيّ من الحنفيّة: إنّ اللّحيين من الوجه فيتحقّق الشّجاج فيهما، فيجب فيهما موجبها خلافاً لما يقوله مالك أنّهما ليسا من الوجه، لأنّ المواجهة لا تقع بهما. ولم نعثر في كتب المالكيّة على نصٍّ في هذا الموضوع. الثّديان: 46 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ في قطع ثديي المرأة ديةً كاملةً، وفي الواحد منهما نصف الدّية. قال ابن المنذر: أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ في ثدي المرأة نصف الدّية، وفي الثّديين الدّية، ولأنّ فيهما جمالاً ومنفعةً فأشبها اليدين والرّجلين. كذلك تجب الدّية الكاملة في قطع حلمتي الثّديين عند جمهور الفقهاء " الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة " وفي إحداهما نصف الدّية، وروي نحو هذا عن الشّعبيّ والنّخعيّ، لأنّ المنفعة الكاملة وجمال الثّدي بهما كمنفعة اليدين وجمالهما بالأصابع. وقال المالكيّة: تجب الدّية في حلمتيهما إذا بطل اللّبن أو فسد، وإلاّ وجبت حكومة بقدر الشّين. قالوا: وكذا تلزم الدّية كاملةً إن بطل اللّبن أو فسد من غير قطع الحلمتين، فالدّية عندهم لفساد اللّبن لا لقطع الحلمتين، ومن ثمّ استظهر ابن عرفة أنّ في قطع حلمتي العجوز حكومةً كاليد الشّلّاء. وهذا في ثدي المرأة، أمّا ثديا الرّجل ففيهما حكومة عدلٍ عند جمهور الفقهاء " الحنفيّة والمالكيّة وهو المذهب عند الشّافعيّة " إذ ليس فيهما منفعة مقصودة، بل مجرّد جمالٍ، وعند الحنابلة وفي قولٍ عند الشّافعيّة تجب فيهما الدّية كثديي المرأة. الأليتان: 47 - الأليتان هما ما علا وأشرف من أسفل الظّهر عند استواء الفخذين، وفيهما الدّية الكاملة إذا أخذتا إلى العظم الّذي تحتهما، وفي كلّ واحدةٍ منهما نصف الدّية، وهذا عند جمهور الفقهاء ; لما فيهما من الجمال والمنفعة في الرّكوب والقعود. وهذا إذا أخذتا إلى العظم واستؤصل لحمهما حتّى لا يبقى على الورك لحم. أمّا بعض اللّحم فإذا عرف قدره فبقسطه من الدّية، وإلاّ فالحكومة كما صرّح به الشّافعيّة والحنابلة، وقالوا: لا فرق في ذلك بين الرّجل والمرأة. وقال المالكيّة: في أليتي الرّجل حكومة، وكذلك في أليتي المرأة في المشهور عندهم. وقال أشهب: فيهما الدّية، لأنّهما أعظم عليها من ثدييها. الرّجلان: 48 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه تجب الدّية الكاملة في قطع الرّجلين كلتيهما، وأنّ في إحداهما نصف الدّية وحدّ القطع هنا هو مفصل الكعبين. والخلاف فيما إذا قطع أكثر من الكعبين إلى أصل الفخذ من الورك أو الرّكبة، كالخلاف في قطع اليدين فوق الكوعين في وجوب حكومة عدلٍ مع الدّية أو عدم وجوبها عند الفقهاء (ر: ف /43)، ورجل الأعرج كرجل الصّحيح، كما أنّ يد الأعسم كيد الصّحيح. الشّفتان: 49 - اتّفق الفقهاء على أنّ في قطع الشّفتين ديةً كاملةً، لما ورد في حديث عمرو بن حزمٍ «وفي الشّفتين الدّية» ولأنّهما عضوان ليس في البدن مثلهما، فيهما جمال ظاهر ومنفعة مقصودة، فإنّهما طبق على الفم تقيان ما يؤذيه، ويستران الأسنان، ويردّان الرّيق، وينفخ بهما، ويتمّ بهما الكلام وغير ذلك من المنافع، فتجب فيهما الدّية كاليدين والرّجلين. وجمهور الفقهاء على أنّه تجب في كلّ واحدةٍ منهما نصف الدّية من غير تفريقٍ، وروي هذا عن أبي بكرٍ وعليٍّ رضي الله عنهما. وفي روايةٍ عند الحنابلة، يجب في الشّفة العليا ثلث الدّية، وفي السّفلى الثّلثان، وبه قال سعيد بن المسيّب والزّهريّ، لأنّ المنفعة بها أعظم، لأنّها هي الّتي تدور وتتحرّك، وتحفظ الرّيق، والطّعام، والعليا ساكنة. الحاجبان واللّحية وقرع الرّأس: 50 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ في إتلاف شعر الحاجبين إذا لم ينبتا الدّية، وفي أحدهما نصف الدّية، وكذلك في شعر اللّحية إذا لم ينبت الدّية، وهذا قول سعيد بن المسيّب وشريحٍ والحسن وقتادة، وروي ذلك عن عليٍّ وزيد بن ثابتٍ رضي الله عنهما، لأنّ فيه إذهاب الجمال على الكمال، وفيه إذهاب منفعةٍ، فإنّ الحاجب يردّ العرق عن العين ويفرّقه، وهدب العين يردّ عنها ويصونها. وأمّا اللّحية فلأنّ فيها جمالاً كاملاً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنّ ملائكة سماء الدّنيا تقول: سبحان من زيّن الرّجال باللّحى والنّساء بالذّوائب». وعن عليٍّ رضي الله عنه أنّه أوجب في شعر الرّأس إذا حلق فلم ينبت ديةً كاملةً. ونقل الموصليّ عن أبي جعفرٍ الهندوانيّ قوله: إنّما تجب الدّية في اللّحية إذا كانت كاملةً يتجمّل بها. أمّا إذا كانت طاقاتٍ متفرّقةً لا يتجمّل بها فلا شيء فيها، وإن كانت غير متفرّقةٍ ولا يتجمّل بها وليست الجناية عليها ممّا تشينها ففيها حكومة عدلٍ. وقال ابن قدامة: ولا تجب الدّية في شيءٍ من هذه الشّعور إلاّ بذهابه على وجهٍ لا يرجى عوده مثل أن يقلب على رأسه ماءً حارّاً فيتلف منبت الشّعر، فينقلع بالكلّيّة بحيث لا يعود، وإن رجي عوده إلى مدّةٍ انتظر إليها. وقال الشّافعيّة والمالكيّة: لا يجب في إتلاف الشّعور غير الحكومة، لأنّه إتلاف جمالٍ من غير المنفعة، فلم يجب فيه غير الحكومة، كإتلاف العين القائمة واليد الشّلّاء. الشّفران: 51 - الشّفران بالضّمّ هما اللّحمان المحيطان بفرج المرأة المغطّيان له، وفي قطعهما أو إتلافهما إن بدا العظم من فرجها الدّية الكاملة، وفي إتلاف أو قطع أحدهما نصف الدّية عند جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " والدّليل على ذلك ما رواه ابن وهبٍ عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قضى في شفري المرأة بالدّية. ولأنّ فيهما جمالاً ومنفعةً مقصودةً، إذ بهما يقع الالتذاذ بالجماع. ولا فرق في ذلك بين الرّتقاء والقرناء وغيرهما، ولا بين البكر والثّيّب، والكبيرة والصّغيرة، كما صرّح به الشّافعيّة والحنابلة. ولم نجد فيما اطّلعنا عليه من كتب الحنفيّة كلامًا في هذا الموضوع. 52 - الأشفار هي حروف العين الّتي ينبت عليها الشّعر، والشّعر النّابت عليها هو الهدب. وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ في قطع أو قلع أشفار العينين الأربعة ديةً كاملةً، وفي أحدها ربع الدّية، وهذا إذا أتلفت بالكلّيّة بحيث لا يرجى عودها عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وذلك، لأنّه يتعلّق بها الجمال على الكمال، وتتعلّق بها المنفعة وهي دفع الأذى والقذى عن العين، وتفويت ذلك ينقص البصر، ويورث العمى، فإذا وجب في الكلّ الدّية وهي أربعة وجب في الواحد منها ربع الدّية، وفي الاثنين نصف الدّية، وفي الثّلاثة ثلاثة أرباع الدّية. ولو قطع أو قلع الجفون مع الأهداب والأشفار تجب دية واحدة، لأنّ الأشفار مع الجفون كشيءٍ واحدٍ كالمارن مع القصبة. ولو قلع أو قطع الأهداب وحدها دون الأشفار، قال الحنفيّة والحنابلة: تجب فيها دية مثل قطع الأشفار، لأنّ فيها جمالاً ونفعاً، فإنّها تقي العينين وتردّ عنهما، وتجمّلهما تحسّنهما، فوجبت فيها الدّية كما تجب في حلمتي الثّدي والأصابع. وقال الشّافعيّة: في قطع الأهداب وحدها حكومة عدلٍ كسائر الشّعور، لأنّ الفائت بقطعها الزّينة والجمال دون المقاصد الأصليّة وهذا إذا فسد منبتها، وإلاّ فالتّعزير. أمّا المالكيّة فقالوا: لا دية في قلع أشفار العينين، ولا في أهدابهما، بل تجب فيهما حكومة عدلٍ مطلقاً، قال الموّاق نقلاً عن المدوّنة: ليس في أشفار العين وجفونها إلاّ الاجتهاد. أي حكومة عدلٍ.
53 - اتّفق الفقهاء على أنّ في قطع أو قلع أصابع اليدين العشرة ديةً كاملةً، وكذلك في قطع أصابع الرّجلين، وفي قطع كلّ أصبعٍ من أصابع اليدين أو الرّجلين عشر الدّية أي عشرة من الإبل، لحديث عمرو بن حزمٍ: «وفي كلّ أصبعٍ من أصابع اليد والرّجل عشر من الإبل». وروى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «دية أصابع اليدين والرّجلين عشر من الإبل لكلّ أصبعٍ» ولأنّ في قطع الكلّ تفويت منفعة البطش أو المشي، فتجب فيه دية كاملة، وأصابع كلٍّ من اليدين والرّجلين عشر، ففي كلّ أصبعٍ عشر الدّية، ودية كلّ أصبعٍ مقسومة على أناملها " سلاميّاتها "، وفي كلّ أصبعٍ ثلاث أنامل إلاّ الإبهام فإنّها أنملتان. وعلى ذلك ففي كلّ أنملةٍ من الأصابع غير الإبهام ثلث دية الأصبع وهو ثلاثة أبعرةٍ وثلث، وفي الإبهام في كلّ أنملةٍ نصف عشر الدّية وهو خمسة أبعرةٍ، والأصابع كلّها سواء لإطلاق الحديث. أمّا الأصبع الزّائدة ففيها حكومة عدلٍ عند جمهور الفقهاء " الحنفيّة والشّافعيّة وهو الأصحّ عند الحنابلة " لعدم ورود النّصّ فيها، والتّقدير لا يصار إليه إلاّ بالتّوقيف. وقال المالكيّة: في إتلاف الأصبع الزّائدة في يدٍ أو رجلٍ إذا كانت قويّةً على التّصرّف قوّة الأصابع الأصليّة عشر الدّية إن أفردت بالإتلاف، وإن قطعت مع الأصابع الأصليّة فلا شيء فيها. وروي عن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه أنّ فيها ثلث دية الأصبع، وذكر القاضي أنّه قياس المذهب عند الحنابلة على رواية إيجاب الثّلث في اليد الشّلّاء.
54 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يجب في كلّ سنٍّ نصف عشر الدّية، وهو خمس من الإبل أو خمسون ديناراً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «وفي السّنّ خمس من الإبل». والأسنان كلّها سواء، لإطلاق الحديث، وقد روي في بعض طرق الحديث: «والأسنان كلّها سواء» ولأنّ الكلّ في أصل المنفعة سواء، فلا يعتبر التّفاوت فيه، كالأيدي والأصابع، وإن كان في بعضها زيادة منفعةٍ ففي الآخر زيادة جمالٍ. وعلى ذلك تزيد دية الأسنان كلّها على دية النّفس بثلاثة أخماس الدّية عند جمهور الفقهاء، لأنّ الإنسان له اثنان وثلاثون سنّاً، فإذا وجب في الواحدة نصف عشر الدّية يجب في الكلّ مائة وستّون من الإبل. وفي قولٍ عند الشّافعيّة: لا يزيد على ديةٍ إن اتّحد الجاني واتّحدت الجناية، كأن أسقطها بشرب دواءٍ أو بضربٍ أو ضرباتٍ من غير تخلّل اندمالٍ، لأنّ الأسنان جنس متعدّد فأشبه الأصابع، فإن تخلّل الاندمال بين كلّ سنٍّ وأخرى أو تعدّد الجاني فإنّها تزيد قطعاً. وهذا في قلع الأسنان الأصليّة المثغورة " الدّائمة "، ولو ضرب أسنان رجلٍ فتحرّكت أو تغيّرت إلى السّواد أو الحمرة أو الخضرة أو نحوها ففيه عند الفقهاء تفصيل: فقال الحنفيّة: لو ضرب أسنان رجلٍ وتحرّكت ينتظر مضيّ حولٍ، لأنّه مدّة يظهر فيها حقيقة حالها من السّقوط والتّغيّر والثّبوت، سواء أكان المضروب صغيراً أم كبيراً، فإن تغيّرت إلى السّواد أو إلى الحمرة أو إلى الخضرة ففيها الأرش تامّاً، لأنّه ذهبت منفعتها، وذهاب منفعة العضو كذهاب العضو، وإن كان التّغيّر إلى الصّفرة ففيها حكومة عدلٍ. وقال المالكيّة: تجب الدّية في الأسنان بقلعٍ أو اسودادٍ أو بهما، أو بحمرةٍ بعد بياضٍ، أو بصفرةٍ إن كانا عرفا كالسّواد في إذهاب الجمال، وإلاّ فعلى حساب ما نقص، كما تجب الدّية باضطرابها جدّاً بحيث لا يرجى ثبوتها، وفي الاضطراب الخفيف الأرش بقدره. وقال الشّافعيّة: تكمل دية السّنّ بقلع كلّ سنٍّ أصليّةٍ تامّةٍ مثغورةٍ غير متقلقلةٍ. فلا تجب الدّية في السّنّ الشّاغية، وتجب فيها حكومة، ولو سقطت سنّه فاتّخذ سنّاً من ذهبٍ أو حديدٍ أو عظمٍ طاهرٍ فلا دية في قلعها، وإن قلعت قبل الالتحام لم تجب الحكومة لكن يعزّر القالع، وإن قلعت بعد تشبّث اللّحم بها واستعدادها للمضغ والقطع فلا حكومة أيضاً على الأظهر، وتكمل دية السّنّ بكسر ما ظهر منها وإن بقي السّنخ بحاله. ولو قلع السّنّ من السّنخ وجب أرش السّنّ فقط على المذهب، وإن قلع سنّ صغيرٍ لم يثغر ينتظر عودها، فإن عادت فلا دية وتجب الحكومة إن بقي شين. وإن مضت المدّة الّتي يتوقّع فيها العود ولم تعد وفسد المنبت تجب الدّية. وإن قلع سنّاً وكانت متقلقلةً " متحرّكةً " فإن كان بها اضطراب شديد بهرمٍ أو مرضٍ أو نحوهما وبطلت منفعتها ففيها الحكومة، وإن كانت متحرّكةً حركةً يسيرةً لا تنقص المنافع فلا أثر لها وتجب الدّية. ولو تزلزلت سنّ صحيحة بجنايةٍ ثمّ سقطت بعدها لزم الأرش، وإن ثبتت وعادت كما كانت ففيها حكومة عدلٍ. وقال الحنابلة: في كلّ سنٍّ ممّن قد أثغر خمس من الإبل سواء أقلعت بسخنها أو قطع الظّاهر منها فقط، وسواء أقلعها في دفعةٍ أو دفعاتٍ، وإن قلع منها السّنخ فقط ففيه حكومة، ولا يجب بقلع سنّ الصّغير الّذي لم يثغر شيء في الحال، لكن ينتظر عودها، فإن مضت مدّة يحصل بها اليأس من عودها وجبت ديتها، وإن عادت فصيرةً أو شوهاء أو أطول من أخواتها أو صفراء أو حمراء أو سوداء، أو خضراء فحكومة، لأنّها لم تذهب بمنفعتها فلم تجب ديتها، ووجبت الحكومة لنقصها، وإن جعل المجنيّ عليه مكان السّنّ المقلوعة سنّاً أخرى فثبتت لم يسقط دية المقلوعة، كما لو لم يجعل مكانها شيئاً. ثمّ إن قلعت السّنّ المجعولة ففيها حكومة للنّقص، وإن قلع سنّه فردّه فالتحم فله أرش نقصه فقط وهو حكومة، ثمّ إن أبانها أجنبيّ بعد ذلك وجبت ديتها كما لو لم تتقدّم جناية عليها.
55 - الأصل في دية المعاني - فضلاً عمّا ورد في بعضها من نصوصٍ - أنّه إذا فوّت جنس منفعةٍ على الكمال، أو أزال جمالاً مقصوداً في الآدميّ على الكمال يجب كلّ الدّية، لأنّ فيه إتلاف النّفس من وجهٍ، إذ النّفس لا تبقى منتفعاً بها من هذا الوجه، وإتلاف النّفس من وجهٍ ملحق بالإتلاف من كلّ وجهٍ في الآدميّ تعظيمًا له. وهذا الأصل كما هو معتبر في الأعضاء مطبّق كذلك في إذهاب المعاني والمنافع من الأعضاء وإن كانت باقيةً في الظّاهر. وممّا تجب فيه الدّية من المعاني العقل والنّطق وقوّة الجماع والإمناء في الذّكر والحبل في المرأة، والسّمع والبصر والشّمّ والذّوق واللّمس. وهذا إذا أتلفت المعاني دون إتلاف الأعضاء المشتملة عليها. فإن تلف العضو والمنفعة معاً ففي ذلك دية واحدة. وإن أتلفهما بجنايتين منفردتين تخلّلهما البرء فدية كلّ عضوٍ أو منفعةٍ بحسب الحالة. وبيان ذلك فيما يلي: أ - العقل: 56 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الدّية الكاملة في إذهاب العقل، لأنّه من أكبر المعاني قدراً وأعظمها نفعاً، فإنّ به يتميّز الإنسان ويعرف حقائق الأشياء، ويهتدي إلى مصالحه، ويتّقي ما يضرّه، ويدخل في التّكليف. وقد ورد في حديث عمرو بن حزمٍ: «وفي العقل الدّية». قال ابن قدامة: فإن أذهب عقله تماماً بالضّرب وغيره تجب الدّية الكاملة، وإن نقص عقله نقصاً معلوماً بالزّمان وغيره، مثل إن صار يجنّ يوماً ويفيق يوماً فعليه من الدّية بقدر ذلك، وإن لم يعلم مثل أن صار مدهوشاً، أو يفزع ممّا لا يفزع منه ويستوحش إذا خلا، فهذا لا يمكن تقديره، فتجب فيه حكومة. ومثله ما في كتب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة. وتقدير الجناية يكون بتقدير القاضي مستعيناً بقول أهل الخبرة. ب - قوّة النّطق: 57 - ذهب الفقهاء إلى أنّ في إذهاب قوّة النّطق ديةً فإذا فعل بلسانه ما يعجزه عن النّطق بالكمال تجب الدّية الكاملة، وإن عجز عجزاً جزئيّاً بأن كان يقدر على نطق بعض الحروف دون بعضها فالدّية تقسم بحساب الحروف عند جمهور الفقهاء، لما روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه قسم الدّية على الحروف، فما قدر عليه من الحروف أسقط بحسابه من الدّية، وما لم يقدر عليه ألزمه بحسابه منها. وقيل: توزّع الدّية على الحروف المتعلّقة باللّسان دون حروف الحلق السّتّة والحروف الشّفويّة الخمسة، كما تقدّم في دية اللّسان. وقال المالكيّة يقدّر نقص النّطق بالكلام اجتهادًا من العارفين، لا بقدر الحروف، لاختلافها بالخفّة والثّقل. وتجب هذه الدّية بالجناية على النّطق، وإن كان اللّسان باقياً. ج - قوّة الذّوق: 58 - الذّوق قوّة مثبّتة في العصب المفروش على جرم اللّسان، تدرك به الطّعوم لمخالطة الرّطوبة اللّعابيّة الّتي في الفم، ووصولها إلى العصب. وقد ذهب الفقهاء إلى وجوب الدّية في إتلاف حاسّة الذّوق، ولو جنى عليه فأذهب كلامه وذوقه معاً فعليه ديتان، لأنّ كلّ واحدٍ منهما منفعة مقصودة في الإنسان. قال النّوويّ: يبطل الذّوق بالجناية على اللّسان أو الرّقبة أو نحوهما. والمدرك بالذّوق خمسة أشياء: الحلاوة والحموضة والمرارة والملوحة والعذوبة. والدّية تتوزّع عليها. فإذا أبطل إدراك واحدةٍ وجب خمس الدّية، وإذا أبطل إدراك اثنتين وجب خمسا الدّية وهكذا. ولو نقص الإحساس فلم يدرك الطّعوم على كمالها فالواجب الحكومة. د - السّمع والبصر: 59 - تجب الدّية الكاملة في إذهاب قوّة السّمع أو قوّة البصر إذا ذهبت المنفعة بتمامها، عند جميع الفقهاء. ولو أذهب البصر من إحدى العينين أو السّمع من إحدى الأذنين ففيه نصف الدّية. أمّا لو أذهب بعض البصر أو بعض السّمع من إحدى العينين أو الأذنين أو كليهما، فعليه الدّية بحساب ما ذهب إن كان منضبطاً، كما يقول المالكيّة والشّافعيّة، وقال الحنابلة: في نقصان السّمع أو البصر حكومة مطلقاً. ولو أزال أذنيه وسمعه تجب ديتان كما صرّح به الشّافعيّة والحنابلة، لأنّ محلّ السّمع غير محلّ القطع، فالسّمع قوّة أودعها اللّه تعالى في العصب المفروش في الصّماخ، بخلاف ما لو فقأ عينيه فأذهب بصره فتجب دية واحدة، لأنّ البصر يكون بهما. هـ - قوّة الشّمّ: 60 - ذهب جمهور الفقهاء " الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الصّحيح عند الشّافعيّة " إلى أنّه تجب الدّية الكاملة في إتلاف الشّمّ كاملاً، لأنّه حاسّة تختصّ بمنفعةٍ، فكانت فيه الدّية كسائر الحواسّ. وقد ورد في حديث عمرو بن حزمٍ: «وفي المشامّ الدّية». وإن نقص الشّمّ بأن علم قدر الذّاهب وجب قسطه من الدّية، وإن لم يعلم وجبت حكومة يقدّرها الحاكم بالاجتهاد. وفي قولٍ عند الشّافعيّة: لا تجب الدّية في الشّمّ بل فيه حكومة. و - اللّمس: 61 - اللّمس قوّة مثبتة على سطح البدن تدرك به الحرارة والبرودة والنّعومة والخشونة ونحوها عند المماسّة. وقد ذكر فقهاء المالكيّة أنّ في إذهاب هذه القوّة ديةً كاملةً قياساً على الشّمّ. ولم نجد لبقيّة الفقهاء كلاماً في هذا الموضوع. ز - قوّة الجماع والإمناء: 62 - صرّح الفقهاء بأنّه تجب الدّية الكاملة بالجناية على قوّة الجماع إذا عجز عنه كاملاً بإفساد إنعاظه، ولو مع بقاء المنيّ وسلامة الصّلب والذّكر، أو انقطع ماؤه، سواء أكان بالضّرب على الصّلب أو غير ذلك. لأنّ الجماع منفعة مقصودة تتعلّق به مصالح جمّة، فإذا فات وجب به دية كاملة. وكذلك بانقطاع الماء يفوت جنس المنفعة من التّوالد والتّناسل. ولا تندرج في إتلاف الجماع أو الإمناء دية الصّلب وإن كانت قوّة الجماع فيه كما قال المالكيّة. فلو ضرب صلبه فأبطله وأبطل جماعه فعليه ديتان. وذكر الشّافعيّة من هذا القبيل إتلاف قوّة حبل المرأة فيكمل فيه ديتها لانقطاع النّسل.
63 - الشّجاج ما يكون في الرّأس أو الوجه، والجراح ما يكون في سائر البدن. وقد اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجب أرش مقدّر في سائر جراح البدن، باستثناء الجائفة، وإنّما تجب فيها الحكومة، وذلك لأنّه لم يرد فيها نصّ من الشّرع ويصعب ضبطها وتقديرها. أمّا الجائفة، وهي ما وصل إلى الجوف من بطنٍ أو ظهرٍ أو صدرٍ أو ثغرة نحرٍ أو وركٍ أو جنبٍ أو خاصرةٍ أو مثانةٍ أو غيرها فاتّفق الفقهاء على أنّ فيها ثلث الدّية، سواء أكانت عمداً أم خطأً، وذلك لما ورد في حديث عمرو بن حزمٍ «وفي الجائفة ثلث الدّية». كما اتّفقوا على أنّ الجائفة إذا نفذت من جانبٍ لآخر تعتبر جائفتين، وفيهما ثلثا الدّية. أمّا الشّجاج وهي الجروح الواقعة في الرّأس والوجه فقد قسّمها أكثر الفقهاء إلى عشرة أقسامٍ، على اختلافٍ في تسميتها، وينظر ذلك في مصطلح كلٍّ منها.
64 - ذهب جمهور الفقهاء " الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو وجه عند الشّافعيّة " إلى عدم وجوب أرشٍ مقدّرٍ فيما يكون أقلّ من الموضحة، أي قبل الموضحة، وهي الحارصة، والدّامعة والدّامية والباضعة والمتلاحمة والسّمحاق، وإنّما يجب في كلٍّ من هذه الشّجاج حكومة عدلٍ. لأنّه ليس فيها أرش مقدّر، ولا يمكن إهدارها، فتجب الحكومة. والقول الثّاني عند الشّافعيّة أنّه إن لم يمكن معرفة قدرها من الموضحة فكذلك. وإن أمكن بأن كان على رأس موضحةٍ إذا قيس بها الباضعة مثلاً عرف أنّ المقطوع ثلث أو نصف في عمق اللّحم وجب قسطه من أرش الموضحة. قال النّوويّ: فإن شككنا في قدرها من الموضحة أوجبنا اليقين، قال الأصحاب: وتعتبر مع ذلك الحكومة، فيجب أكثر الأمرين من الحكومة وما يقتضيه التّقسيط، لأنّه وجد سبب كلّ واحدٍ منهما. أمّا الموضحة والهاشمة والمنقّلة والآمّة أو المأمومة ففي كلّ واحدٍ منها أرش مقدّر، وبيانه فيما يلي: أ - الموضحة: 65 - الموضحة هي أقلّ شجّةٍ فيها أرش مقدّر من الشّارع، ولها أهمّيّة عند الفقهاء، لأنّه يجب فيها القصاص إذا كانت عمداً، وهي الفاصل بين وجوب المقدّر أي الأرش وغير المقدّر أي الحكومة. واتّفق الفقهاء على أنّه في الموضحة نصف عشر الدّية، وهو خمس من الإبل في الحرّ الذّكر المسلم. لما ورد في حديث عمرو بن حزمٍ «وفي الموضحة خمس من الإبل». إلاّ أنّ المالكيّة لا يعتبرون الجرح على الأنف واللّحي الأسفل موضحةً، فلا يقولون فيها بأرشٍ مقدّرٍ، فتجب فيهما حكومة عدلٍ، كسائر جراحات البدن. وقيّدها الحنفيّة بأن لا يكون المجنيّ عليه أصلعاً، وإلاّ ففيها حكومة عدلٍ، لأنّ جلده أنقص زينةً من غيره. وقال الشّافعيّة وإنّما يجب في الموضحة خمس من الإبل في حقّ من تجب الدّية الكاملة بقتله، وهو الحرّ المسلم الذّكر وهذا المبلع نصف عشر ديته، فتراعى هذه النّسبة في حقّ غيره فتجب في موضحة اليهوديّ نصف عشر ديته وهو بعير وثلثان، وفي موضحة المرأة بعيران ونصف، وفي موضحة المجوسيّ ثلثا بعيرٍ. وذهب الحنابلة إلى التّسوية بين الذّكر والأنثى في موضحتهما لما ورد في حديث عمرو بن حزمٍ: «وفي الموضحة خمس من الإبل»، وهو مطلق، فالرّجل والمرأة لا يختلفان في أرش الموضحة لأنّه دون الثّلث، وهما يستويان فيما دون الثّلث ويختلفان فيما زاد على الثّلث. وذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ موضحة الرّأس والوجه سواء، وروي ذلك عن أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما وبه قال شريح ومكحول والشّعبيّ والزّهريّ وربيعة. وروي عن سعيد بن المسيّب وهو رواية عن أحمد أنّ موضحة الوجه فيها عشر من الإبل لأنّ شينها أكثر، وموضحة الرّأس يسترها الشّعر والعمامة. ب - الهاشمة: 66 - الهاشمة هي الّتي تتجاوز الموضحة وتهشم العظم أي تكسره، كما تقدّم، وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ فيها عشر الدّية، وهو عشرة أبعرةٍ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة، وهو قول الشّافعيّة إذا كانت مع الإيضاح. وروي ذلك عن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه، وهو لا يكون إلاّ عن توقيفٍ، وبه قال قتادة والثّوريّ. أمّا في الهاشمة دون الإيضاح ففيها خمسة أبعرةٍ على الأصحّ عند الشّافعيّة، وقيل: حكومة. وقال ابن المنذر: تجب في الهاشمة الحكومة، إذ لا سنّة فيها ولا إجماع، فتجب فيها الحكومة كما تجب فيما دون الموضحة. أمّا المالكيّة فقد اختلفت أقوالهم: فقد جاء في مختصر خليلٍ وشروحه أنّ الهاشمة أرشها عشر الدّية ونصفه. ونقل الموّاق عن ابن شاسٍ أنّ الهاشمة لا دية فيها بل حكومة. وقال ابن رشدٍ: لم يعرفها مالك، وفي قولٍ عندهم فيها عشر الدّية مائة دينارٍ. وقال النّفراويّ المالكيّ: المنقّلة، ويقال لها: الهاشمة أيضاً، فيها عشر الدّية ونصف عشرها وهي خمسة عشر بعيراً. ج - المنقّلة: 67 - المنقّلة هي الّتي تنقل العظام بعد كسرها وتزيلها عن مواضعها. ولا خلاف بين الفقهاء في أنّه يجب في المنقّلة عشر الدّية ونصفه - أي خمسة عشر بعيراً- وذلك لما ورد في حديث عمرو بن حزمٍ: «وفي المنقّلة خمس عشرة من الإبل». ومثله ما ورد في حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه مرفوعاً، وقد حكى ابن المنذر إجماع أهل العلم عليه. وقد سبق كلام بعض المالكيّة أنّ المنقّلة يقال لها الهاشمة أيضاً عندهم. د - الآمّة أو المأمومة: 68 - الآمّة والمأمومة شيء واحد. قال ابن قدامة نقلاً عن ابن عبد البرّ: أهل العراق يقولون لها الآمّة، وأهل الحجاز يقولون لها المأمومة، وهي الجراحة الواصلة إلى أمّ الدّماغ، وهو الجلدة الّتي تجمع الدّماغ وتستره. ويجب في المأمومة ثلث الدّية عند جمهور الفقهاء " الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وفي الصّحيح عند الشّافعيّة " لما ورد في حديث عمرو بن حزمٍ: «في المأمومة ثلث الدّية» وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. ونقل النّوويّ عن الماورديّ أنّ فيها ثلث الدّية وحكومةً. هـ - الدّامغة: 69 - الدّامغة هي الشّجّة الّتي تتجاوز عن الآمّة فتخرق الجلدة وتصل إلى الدّماغ وتخسفه. ولم يذكرها بعض الفقهاء في بحث الشّجاج، لأنّ المجنيّ عليه يموت بعدها عادةً، فيكون قتلاً، لا شجّاً. فإن عاش المحنيّ عليه بعد الدّامغة، فذهب جمهور الفقهاء " الحنفيّة والمالكيّة في المعتمد وهو المذهب عند الحنابلة والأصحّ المنصوص عند الشّافعيّة " إلى أنّ فيها ما في الآمّة، وهو ثلث الدّية. وفي قولٍ عند الشّافعيّة والحنابلة تجب فيها مع الثّلث حكومة لخرق غشاء الدّماغ. وفي قولٍ عند المالكيّة تجب في الدّامغة حكومة عدلٍ.
70 - الأصل أنّ الدّية تتعدّد بتعدّد الجناية وإتلاف الأعضاء أو المعاني المختلفة إذا لم تفض إلى الموت. فإن قطع يديه ورجليه معًا ولم يمت المجنيّ عليه تجب ديتان. وإن جنى عليه فأذهب سمعه وبصره وعقله وجب ثلاث دياتٍ، وهكذا، وقد روي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في رجلٍ رمى آخر بحجرٍ فذهب عقله وبصره وسمعه وكلامه فقضى فيه بأربع دياتٍ وهو حيّ، لأنّه أذهب منافع في كلّ واحدةٍ منها دية، فوجب عليه دياتها كما لو أذهبها بجناياتٍ مختلفةٍ. أمّا إذا أفضت الجناية إلى الموت فتتداخل ديات الأطراف والمعاني في دية النّفس فلا تجب إلاّ دية واحدة. 71 - وبناءً على هذا الأصل اتّفق الفقهاء في الجملة على أنّ الجناية على ما دون النّفس إذا لم يطرأ عليها البرء والاندمال وكانت من جانٍ واحدٍ تتداخل مع الجناية على النّفس. فإذا قطع يديه خطأً ثمّ قتله خطأً قبل البرء لا يجب على الجاني إلاّ دية واحدة. وكذلك إذا قطع سائر أعضائه خطأً ثمّ قتله خطأً، أو سرت الجناية على الأطراف إلى النّفس فمات منها. كما اتّفقوا على أنّه تتداخل الأعضاء في منافعها، والمنافع في الأعضاء إذا كانت الجناية على نفس المحلّ، سواء أكانت مرّةً واحدةً أم بدفعاتٍ مختلفةٍ، إذا لم يطرأ عليها البرء. فإذا قطع أنفه وأذهب شمّه لا تجب إلاّ دية واحدة، وإذا أذهب بصره ثمّ فقأ عينيه لا تجب إلاّ دية واحدة وهكذا. وسواء أحصلت الجنايتان معاً أم بالتّراخي بشرط أن لا يتخلّل بينهما برء. وهذا إذا اتّفقت صفة الجناية على النّفس والأطراف في العمد والخطأ، وكانت الجناية في الأطراف بالقطع وإتلاف المعاني في محلٍّ واحدٍ، ولم يطرأ على الجنايتين اندمال. وإذا طرأ البرء والاندمال بين الجنايتين على الأطراف، أو على طرفٍ ومعنىً من نفس الطّرف تتعدّد الدّيات. فإذا قطع أنفه واندمل ثمّ أتلف شمّه تجب عليه ديتان. وإذا قطع يديه ورجليه ولم يسر إلى النّفس واندملت تجب عليه ديتان، وهكذا. أمّا إن اختلفت الجناية صفةً، بأن كانت إحداهما عمداً والأخرى خطأً، أو لم يكن محلّ الجنايتين واحداً، ولم يتخلّل بينهما برء، أو كانت الجناية على طرفٍ أو معنىً لكنّها سرت إلى طرفٍ أو معنىً آخر ففي هذه المسائل وفروعٍ أخرى من نوعها خلاف وتفصيل، بيان ضوابطه فيما يلي: 72 - يقول الحنفيّة: من قطع يد رجلٍ خطأً ثمّ قتله عمداً قبل أن تبرأ، أو قطع يده عمداً ثمّ قتله خطأً أو قطع يده خطأً فبرئت يده ثمّ قتله خطأً، أو قطع يده عمداً فبرأت ثمّ قتله عمداً فإنّه يؤخذ بالأمرين جميعاً. جاء في الهداية وفتح القدير: الأصل فيه أنّ الجمع بين الجراحات واجب ما أمكن تتميماً للأوّل لأنّ القتل في الأعمّ يقع بضرباتٍ متعاقبةٍ وفي اعتبار كلّ ضربةٍ بنفسها بعض الحرج إلاّ أن لا يمكن الجمع فيعطى كلّ واحدٍ حكم نفسه وقد تعذّر الجمع في هذه الفصول في الأوّلين لاختلاف حكم الفعلين وفي الآخرين لتخلّل البرء، وهو قاطع للسّراية حتّى لو لم يتخلّل وقد تجانسا بأن كانا خطأين يجمع بالإجماع لإمكان الجمع واكتفي بديةٍ واحدةٍ. وقال الموصليّ الحنفيّ: من شجّ رجلًا فذهب عقله أو شعر رأسه دخل فيه أرش الموضحة ; لأنّ العقل إذا فات فاتت منفعة جميع الأعضاء فصار كما إذا شجّه فمات، وأمّا الشّعر فلأنّ أرش الموضحة يجب لفوات بعض الشّعر حتّى لو نبت سقط الأرش، والدّية تجب بفوات جميع الشّعر، وقد تعلّقا بفعلٍ واحدٍ فيدخل الجزء في الكلّ كما لو قطع أصبعه فشلّت يده وإن ذهب سمعه أو بصره أو كلامه لم تدخل، ويجب أرش الموضحة مع ذلك، لما روينا عن عمر رضي الله عنه أنّه قضى في ضربةٍ واحدةٍ بأربع دياتٍ، ولأنّ منفعة كلّ عضوٍ من هذه الأعضاء مختصّة به لا تتعدّى إلى غيره فأشبه الأعضاء المختلفة، بخلاف العقل فإنّ منفعته تتعدّى إلى جميع الأعضاء. وعن أبي يوسف أنّ الشّجّة تدخل في دية السّمع والكلام دون البصر، لأنّ السّمع والكلام أمر باطن فاعتبره بالعقل، أمّا البصر فأمر ظاهر فلا يلتحق به. وقال الزّيلعيّ: الجناية إذا وقعت على عضوٍ واحدٍ فأتلفت شيئين، وأرش أحدهما أكثر، دخل الأقلّ فيه، ولا فرق في هذا بين أن تكون الجناية عمداً أو خطأً، وإن وقعت على عضوين لا يدخل، ويجب لكلّ واحدٍ منهما أرشه سواء كان عمداً أو خطأً عند أبي حنيفة رحمه الله، لسقوط القصاص به عنده، وعندهما يجب للأوّل القصاص إن كان عمداً وأمكن الاستيفاء، وإلاّ فكما قال أبو حنيفة. وقال زفر لا يدخل أرش الأعضاء بعضه في بعضٍ، لأنّ كلّ واحدٍ منهما جناية فيما دون النّفس فلا يتداخلان كسائر الجنايات. 73 - يقول المالكيّة: تتعدّد الدّية بتعدّد الجناية إلاّ المنفعة بمحلّها، فلو ضرب صلبه فبطل قيامه وقوّة ذكره حتّى ذهب منه أمر النّساء لم يندرج، ووجبت ديتان، كما أنّ من شجّ رجلًا موضحةً فذهب من ذلك سمعه وعقله فعلى عاقلته ديتان بجانب أرش الموضحة. أمّا إذا ذهبت المنفعة بمحلّها فتندرج الجنايتان، فتجب دية واحدة، على المنفعة ومحلّهامعاً. وكذا إذا جنى على لسانه فأذهب ذوقه ونطقه أو فعل به ما منع به واحداً منهما، أو هما مع بقاء اللّسان إذا ذهب كلّه بضربةٍ أو بضرباتٍ في فورٍ. وأمّا بضرباتٍ بغير فورٍ فتتعدّد بمحلّها الّذي لا توجد إلاّ به. فإن وجدت بغيره وبه ولو أكثرها، كأن كسر صلبه فأقعده وذهبت قوّة الجماع فعليه دية لمنع قيامه، ودية لعدم قوّة الجماع وإن كان أكثرها في الصّلب. واختلفت أقوال المالكيّة في الأذن والأنف، فقد نقل أكثر شرّاح خليلٍ عن ابن القاسم أنّ في الشّمّ ديةً ويندرج في الأنف كالبصر مع العين والسّمع مع الأذن. وهذا مطابق لقاعدة: إنّ المنفعة لا تتعدّد بمحلّها، كما اقتضاه نصّ خليلٍ: " وتعدّدت الدّية بتعدّدها إلاّ المنفعة بمحلّها "، وهذا هو الصّواب، كما قال البنانيّ. وقال الزّرقانيّ: ولا يشمل قوله " بمحلّها " الأذن والأنف، وإن اقتضاه كلام بعض الشّرّاح، بل في قطع الأذن أو الأنف غير المارن حكومة، والدّية في السّمع والشّمّ، لأنّ السّمع ليس محلّه الأذن، والشّمّ ليس محلّه الأنف بدليل تعريفيهما. 74 - أمّا الشّافعيّة فقال الشّربينيّ في شرحه على المنهاج: إذا أزال الجاني أطرافاً تقتضي دياتٍ كقطع أذنين، ويدين ورجلين، ولطائف " معاني " تقتضي دياتٍ، كإبطال سمعٍ، وبصرٍ وشمٍّ، فمات سرايةً منها، وكذا من بعضها ولم يندمل البعض كما اقتضاه نصّ الشّافعيّ، واعتمده البلقينيّ إذا كان قبل الاندمال للبعض الآخر فدية واحدة، وسقط بدل ما ذكره، لأنّها صارت نفساً، أمّا إذا مات بسراية بعضها بعد اندمال بعضٍ آخر منها لم يدخل ما اندمل في دية النّفس قطعاً، وكذا لو جرحه جرحاً خفيفاً لا مدخل للسّراية فيه ثمّ أجافه "أصابه بجائفةٍ" فمات بسراية الجائفة قبل اندمال ذلك الجرح فلا يدخل أرشه في دية النّفس كما هو مقتضى كلام الرّوضة وأصلها، أمّا ما لا يقدّر بالدّية فيدخل أيضاً كما فهم ممّا تقرّر بالأولى، وكذا لو حزّه الجاني أي قطع عنق المجنيّ عليه قبل اندماله من الجراحة يلزمه للنّفس دية واحدة في الأصحّ المنصوص، لأنّ دية النّفس وجبت قبل استقرار ما عداها فيدخل فيها بدله كالسّراية. والثّاني تجب ديات ما تقدّمها، لأنّ السّراية قد انقطعت بالقتل فأشبه انقطاعها بالاندمال. وما سبق هو عند اتّحاد الفعل المجنيّ به، فإن كان مختلفًا كأن حزّ الرّقبة عمدًا والجناية الحاصلة قبل الحزّ خطأً، أو شبه عمدٍ أو عكسه كأن حزّه خطأً والجنايات عمدًا أو شبه عمدٍ فلا تداخل لشيءٍ ممّا دون النّفس فيها في الأصحّ، بل يستحقّ الطّرف والنّفس لاختلافهما واختلاف من تجب عليه، فلو قطع يديه ورجليه خطأً أو شبه عمدٍ ثمّ حزّ رقبته عمدًا، أو قطع هذه الأطراف عمداً ثمّ حزّ الرّقبة خطأً أوشبه عمدٍ وعفا الأوّل في العمد على ديته وجبت في الأولى دية خطأٍ أو شبه عمدٍ ودية عمدٍ، وفي الثّانية ديتا عمدٍ ودية خطأٍ أو شبه عمدٍ، والقول الثّاني وهو مقابل الأصحّ تسقط الدّيات فيهما، ولو حزّ الرّقبة غيره أي الجاني المتقدّم تعدّدت، أي الدّيات، لأنّ فعل الإنسان لا يدخل في فعل غيره، فيلزم كلّاً منهما ما أوجبته جنايته. 75 - وقال الحنابلة: إذا قطع يديه ورجليه ثمّ عاد فضرب عنقه قبل أن تندمل جراحه، وصار الأمر إلى الدّية بعفو الوليّ أو كون الفعل خطأً أو شبه عمدٍ أو غير ذلك فالواجب دية واحدة، لأنّه قاتل قبل استقرار الجرح، فدخل أرش الجراحة في أرش النّفس، كما لو سرت إلى النّفس. وقال بعضهم: تجب دية الأطراف المقطوعة ودية النّفس، لأنّه لمّا قطع بسراية الجرح بقتله صار كالمستقرّ، فأشبه ما لو قتله غيره. وإن قطع الجاني بعض أعضائه ثمّ قتله بعد أن برئت الجراح، مثل إن قطع الجاني يديه ورجليه فبرئت جراحته ثمّ قتله فقد استقرّ حكم القطع بالبرء ولوليّ القتيل الخيار، إن شاء عفا وأخذ ثلاث دياتٍ، وإن شاء قتله وأخذ ديتين، ديةً لليدين وديةً للرّجلين، لأنّ كلّ جنايةٍ من ذلك استقرّ حكمها، كما قال البهوتيّ. وهذا يعني أنّه لا تداخل بعد الاندمال عندهم لا في النّفس ولا في الأعضاء.
76 - الأصل أنّ الدّية إذا كان موجبها الفعل الخطأ أو شبه العمد، ولم تكن أقلّ من الثّلث تتحمّلها العاقلة، إلاّ دية العبد أو ما وجب بإقرار المجنيّ عليه أو الصّلح، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تعقل العواقل عمداً ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً». ويشترك مع العاقلة في تحمّل دية الخطأ الجاني نفسه عند الحنفيّة والمالكيّة، خلافاً للشّافعيّة ومن معهم، حيث قالوا: ليس على الجاني المخطئ شيء من الدّية. وقد تقدّم دليل وحكمة تحمّل العاقلة دية الخطأ وشبه العمد. وينظر تفصيل هذه المسائل في مصطلح: (عاقلة). أمّا إذا كانت الجناية عمداً وسقط القصاص بشبهةٍ أو نحوها، أو ثبتت باعتراف الجاني أو الصّلح فإنّ الدّية تجب في مال الجاني نفسه، لأنّها دية مغلّظة، ومن وجوه التّغليظ في العمد وجوب الدّية على الجاني نفسه كما سبق. واختلفوا في عمد الصّبيّ والمجنون: فقال جمهور الفقهاء " الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة " إنّ عمد الصّبيّ والمجنون خطأ تحمله العاقلة، لأنّه لا يتحقّق منهما كمال القصد، فديتهما على عاقلتهما كشبه العمد. ولأنّ مجنوناً صال على رجلٍ بسيف فضربه، فرفع ذلك إلى عليٍّ رضي الله عنه فجعل عقله على عاقلته بمحضرٍ من الصّحابة رضي الله عنهم وقال: عمده وخطؤه سواء. ولأنّ الصّبيّ مظنّة المرحمة، والعاقل المخطئ لمّا استحقّ التّخفيف حتّى وجبت الدّية على عاقلته، فهؤلاء - وهم أغرار - أولى بهذا التّخفيف. وقال الشّافعيّة في الأظهر: إنّ عمد الصّبيّ والمجنون عمد إذا كان لهما نوع تمييزٍ، إلاّ أنّه لا يجب عليهما القصاص للشّبهة، لأنّهما ليسا من أهل العقوبة، فيجب عليهما موجبه الآخر وهو الدّية.
77 - إذا وجد قتيل في قريةٍ أو مكان مملوكٍ لجماعةٍ، ولا يعرف قاتله، وادّعى الأولياء القتل على أهل المحلّة، وجبت الدّية بعد القسامة، على خلافٍ وتفصيلٍ في شروط وأحكام القسامة، تنظر في مصطلح: (قسامة).
يتحمّل بيت المال الدّية في الحالات التّالية: أ - عدم وجود العاقلة أو عجزها عن أداء الدّية: 78 - صرّح الفقهاء بأنّ من لا عاقلة له، أو كان له عاقلة وعجزت عن جميع ما وجب بخطئه أو تتمّته تكون ديته في بيت المال، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه». وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة: هذا إذا كان الجاني مسلماً، فإن كان مستأمناً أو ذمّيّاً فديته في مال الجاني عند الحنابلة في الرّاجح، وهو المذهب عند الشّافعيّة، وقيل: عندهم قولان، كمسلمٍ لا عاقلة له ولا بيت مالٍ. قال ابن قدامة: من لا عاقلة له هل يؤدّى عنه من بيت المال أو لا ؟ فيه روايتان: إحداهما: يؤدّى عنه منه، وهو مذهب الزّهريّ والشّافعيّ، «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ودى الأنصاريّ الّذي قتل بخيبر من بيت المال»، ولأنّ المسلمين يرثون من لا وارث له، فيعقلون عنه عند عدم عاقلته، كعصباته ومواليه. والثّانية: لا يجب ذلك، لأنّ بيت المال فيه حقّ للنّساء والصّبيّان والمجانين والفقراء، ولا عمل عليهم، فلا يجوز صرفه فيما لا يجب عليهم. وقال المالكيّة: الكافر الذّمّيّ يعقل عنه ذوو دينه الّذين يؤدّون معه الجزية، والصّلحيّ يعقل عنه أهل صلحه. ب - خطأ الإمام أو الحاكم في حكمه: 79 - إذا أخطأ وليّ الأمر أو القاضي في حكمه فتلف بذلك نفس أو عضو، فديته على بيت المال عند جمهور الفقهاء وهم الحنفيّة، وهو الأصحّ عند الحنابلة وقول عند الشّافعيّة، ومثاله من مات في التّعزير بسبب الزّيادة والتّجاوز بأمر الإمام، فإنّ ديته تجب في بيت المال، لا على العاقلة. واستدلّوا على وجوبها في بيت المال بأنّه خطأ يكثر وجوده، فلو وجب ضمانه على عاقلة الإمام أجحف بهم. وفي الأظهر عند الشّافعيّة وهو الرّواية الثّانية عند الحنابلة: أنّها تجب على عاقلته، لأنّها وجبت بخطئه، كما لو رمى صيدًا فقتل آدميّاً. وعند المالكيّة: إن زاد في التّعزير يظنّ السّلامة فخاب ظنّه فهدر، وإن شكّ فالدّية على العاقلة، وهو كواحدٍ منهم. ج - وجود القتيل في الأماكن العامّة: 80 - إذا وجد القتيل في مكان يكون التّصرّف فيه لعامّة المسلمين، كالشّارع الأعظم النّافذ، والجامع الكبير، والسّجن وكلّ مكان لا يختصّ التّصرّف فيه لواحدٍ منهم، ولا لجماعةٍ يحصون، فالدّية في بيت المال، لأنّ الغرم بالغنم، فلمّا كان عامّة المسلمين هم المنتفعين بهذه الأماكن كان الغرم عليهم، فيدفع من مالهم الموضوع لهم في بيت المال. وكذلك إذا قتل شخص في زحام طوافٍ أو مسجدٍ عامٍّ أو الطّريق الأعظم ولم يعرف قاتله، فديته في بيت المال، لقول عليٍّ رضي الله عنه: «لا يطلّ دم امرئٍ مسلمٍ».
81 - إذا لم يكن للجاني عاقلة، وتعذّر حصول الدّية من بيت المال، لعدم وجوده أو عدم ضبطه، فهل يسقط الدّم أو تجب الدّية كاملةً على الجاني نفسه ؟ اختلف الفقهاء: فقال الحنفيّة والمالكيّة وهو الأظهر عند الشّافعيّة واختاره ابن قدامة من الحنابلة: أنّها تجب في مال الجاني. وذهب الحنابلة إلى أنّها تسقط بتعذّر أخذها من بيت المال حيث وجبت فيه، ولا شيء على القاتل، وهذا هو المذهب عندهم، ولا على العاقلة أيضًا لعجزها عن أداء ما وجب عليها من الدّية، ولو أيسرت العاقلة بعد ذلك أخذت الدّية منها كاملةً لئلاّ يضيع دم المسلم هدراً، قال الرّحيبانيّ: وهذا متّجه، ويتّجه أنّه إذا تعذّر أخذ الدّية من بيت المال فتجب في مال القاتل. وفي وجهٍ عند الشّافعيّة: لا تؤخذ من الجاني بل تجب على جماعة المسلمين كنفقة الفقراء كما ذكره النّوويّ في الرّوضة، وقال: لو حدث في بيت المال مال هل يؤخذ منه الواجب ؟ وجهان: أحدهما لا، كما لا يطالب فقير العاقلة لغناه بعد الحول.
82 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المستحقّ للدّية في الجناية على ما دون النّفس أي قطع الأطراف وإزالة المعاني هو المجنيّ عليه نفسه، إذ هو المتضرّر، فله أن يطالب بالدّية، وله حقّ الإبراء والعفو عنها. وإذا عفا عن الدّية فليس للأولياء المطالبة بشيءٍ إذا لم تسر الجناية إلى النّفس. أمّا إذا سرت الجناية إلى النّفس ومات المجنيّ عليه بعد عفوه عن قطع الأطراف والمعاني فهل للأولياء المطالبة بدية النّفس، لأنّ العفو حصل عن القطع لا عن القتل ؟ أو ليس لهم المطالبة بالدّية الكاملة، لأنّ العفو عن موجب الجناية وهو القطع عفو عن الجناية نفسها ؟ في ذلك خلاف وتفصيل، ينظر في مصطلح: (قصاص، وعفو، وسراية). أمّا دية النّفس فهي موروثة كسائر أموال الميّت حسب الفرائض المقدّرة شرعاً في تركته فيأخذ منها كلّ من الورثة الرّجال والنّساء نصيبه المقدّر له باستثناء القاتل، وذلك لقوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ولما رواه عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللّه قال: «العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم». وهذا قول أكثر الفقهاء. وذكر ابن قدامة روايةً أخرى عن عليٍّ رضي الله عنه قال: لا يرث الدّية إلاّ عصبات المقتول الّذين يعقلون عنه، وكان عمر رضي الله عنه يذهب إلى هذا ثمّ رجع عنه لمّا بلغه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم توريث المرأة من دية زوجها. فقد ورد في حديث «الضّحّاك الكلابيّ قال: كتب إليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أورّث امرأة أشيم الضّبابيّ من دية زوجها أشيم». وإذا لم يوجد للمقتول وارث تؤدّى ديته لبيت المال، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه».
83 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الدّية تسقط بالعفو عنها. فإذا عفا المجنيّ عليه عن دية الجناية على ما دون النّفس من القطع وإتلاف المعاني تسقط ديتها، لأنّها من حقوق العباد الّتي تسقط بعفو من له حقّ العفو، والمجنيّ عليه هو المستحقّ الوحيد في دية الأطراف والمعاني. واتّفقوا على أنّ دية النّفس تسقط بعفو أو إبراء جميع الورثة المستحقّين لها. وإذا عفا أو أبرأ بعضهم دون البعض يسقط حقّ من عفا وتبقى حصّة الآخرين في مال الجاني إن كانت الجناية عمداً، وعلى العاقلة إن كانت خطأً. واتّفقوا في الجملة على أنّ المجنيّ عليه له العفو عن دم نفسه بعد ما وجب له الدّم مثل أن يعفو بعد إنفاذ مقاتله عمداً كان القتل أو خطأً. وإذا صار الأمر إلى الدّية يكون العفو بمنزلة الوصيّة فينعقد في الثّلث. أمّا إذا عفا المجنيّ عليه عن دية قطع عضوٍ، فسرت الجناية إلى عضوٍ آخر أو مات من ذلك فهل يشمل العفو دية النّفس أو العضو الّذي سرت إليه الجناية ؟ ففيه ما يأتي من التّفصيل: أ - إذا عفا عن القطع بلفظ الجناية بأن قال: عفوت عن جنايتك، أو قال: عفوت عن القطع وما يحدث منه، شمل العفو ما يحدث من القطع من إتلاف عضوٍ آخر أو الموت. وإن عفا عن القطع مطلقاً بأن لم يقيّده بقودٍ ولا ديةٍ، ولم يكن بلفظ الجناية، ولم يذكر ما يحدث منه فهذا العفو يخصّ القطع، ولا يتناول ما يسري منه من إتلاف أعضاءٍ أخرى أو النّفس عند أكثر الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة، وهو قول أبي حنيفة ورواية عند الحنابلة "، وعلى ذلك فالجاني ضامن للجناية وما تسري إليه من نفسٍ أو عضوٍ. حتّى إنّ المالكيّة قالوا بالقصاص بعد القسامة إن كانت الجناية عمداً من واحدٍ تعيّن لها. واستدلّ الفقهاء لعدم شمول العفو لما يسري منه من إتلاف الأعضاء أو النّفس بأنّ سبب الضّمان قد تحقّق وهو قتل النّفس المعصومة " أو إتلاف العضو "، والعفو لم يتناوله بصريحه، لأنّه عفا عن القطع، وهو غير القتل، وبالسّراية تبيّن أنّ الواقع قتل، فوجب ضمانه، وكان ينبغي أن يجب القصاص في العمد إلاّ أنّه تجب الدّية، لأنّ صورة العفو أورثت شبهةً وهي دارئة للقود، بخلاف العفو عن القطع بلفظ الجناية، لأنّها اسم جنسٍ وبخلاف العفو عن القطع وما يحدث منه لأنّه صريح في العفو عن السّراية والقتل. وفي روايةٍ عند الحنابلة، وهو قول أبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة يصحّ العفو، ويتناول ما يسري عن القطع من إتلاف عضوٍ آخر أو النّفس، فلا شيء على القاتل، وذلك لأنّ العفو عن القطع عفو عن موجبه، وموجبه القطع لو اقتصر، أو القتل إذا سرى، فكان العفو عنه عفواً عن موجبه أيّهما كان. ولأنّ اسم القطع يتناول السّاري والمقتصر، فيكون العفو عن القطع عفواً عن نوعيه، وصار كما إذا كان العفو عن الجناية، فإنّه يتناول الجناية السّارية والمقتصرة فكذا هذا. وعلى ذلك فتسقط بعفو المجنيّ عليه عن القطع ولو سرت الجناية إلى النّفس عندهم. وتفصيل هذه المسائل في مصطلحات: (قتل، قصاص، سراية).
|